نعني بالنخب النظاميّة النخب الثقافية التي تصطفّ إلى جانب النظام الحاكم، وتنظّر لسياساته، وتشرّع قراراته، وتفسّر برامجه للجمهور، وتنخرط بكثافة في حملات الدعاية له، ولا ترى حرجا في تبرير أخطائه، والتغطية على انتهاكاته، وتوظّف طاقاتها الذكية، ومهاراتها التعبيرية، وقدراتها الحجاجية للبرهنة على صوابية الزمرة الحاكمة، جائرة أم عادلة، شمولية أم ديمقراطية، رجعية أم تقدّمية. فالنخب النظاميّة هي بوق السلطة الحاكمة، وعقلها المفكّر، وصوتها المعبّر، وغايتها تثبيت النظام القائم، وضمان استمرارِه في الزمان، وانتشاره في المكان، وامتداده في الجموع. وذلك بترويج دوغما النظام عبر النفاذ إلى المنابر الإعلامية، والتعليمية، والدينية، والثقافية وغيرها. وبناء عليه، تضطلع النخب الثقافية النظاميّة بدور حيوي في تشكيل الوعي الجمعي، ورسم سياسات المنظومة الحاكمة، وتأليف الجمهور حولها.
وتقف على طرفي نقيضٍ مع النخب العضوية عموما، ومع النخب الراديكالية المعارضة خصوصا التي تصطفّ إلى جانب المحكومين، وتتلبّس همومهم، وتتبنّى مطالبهم وأصواتهم الاحتجاجية. ويتبيّن للناظر في تاريخ تونس بعد الاستقلال أنّ النخب الثقافية النظاميّة اضطلعت بدور جوهري في رسم معالم السياسات الحاكمة، وترتيب العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتشكيل الوعي الجمعي على كيْفٍ ما. وذلك على امتداد عهد الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي، مرورا بحقبة الانتقال الديمقراطي، وصولا إلى زمن حكم قيس سعيّد.
ساهمت النخب النظامية إبّان الاستقلال في الانتقال بالبلاد من نظام حكم ملكي إلى نظام جمهوري، انبنى مؤسّسيا على صياغة دستور وضعي، وانتخاب برلمان تمثيلي، وتشكيل حكومة تنفيذية، وإقامة سلطةٍ رئاسية مطلقة، استمدّت نفوذها من هيمنة الحزب الدستوري الحاكم على المجال العام. ولعب المثقفون النظاميون دورا طليعيا في ترويج مشروع بورقيبة التحديثي، خصوصا ما تعلّق بعلمنة الدولة، وتعصير التعليم، والانفتاح على الغرب، والتمكين للمرأة، وتحديد النسل.
ووظّفوا قوّتهم التعبيرية والتعبوية لتمرير تلك المبادرات الرئاسية رغم محدودية شعبيتها. ونشطت النخب النظامية في ترسيخ صورة الحبيب بورقيبة/ الرمز باعتباره الزعيم/ المخلّص من الاستعمار، وصانع الاستقلال في نظر كثيرين، وجرى، في السياق نفسه، تهميش الثوار وقيادات بارزة في حركة التحرير الوطني. وجرى وسم بورقيبة بـ"المجاهد الأكبر"، و"سيّد الأسياد"، وكان مصير جلّ من نافسوه على الزعامة الاعتقال أو النفي أو القتل. ومع فشل المحاولة الانقلابية عليه عام 1962، وتراجع الأداء الاجتماعي والتنموي للدولة، وانغلاق المجال السياسي عقودا من حكم الزعيم المؤسّس للجمهورية الأولى، تعزّز حضور من يُعرفون بمثقّفي البلاط في المحيط الرئاسي وفي المجال العام، فتصدّروا الإعلام الحكومي مثل صحيفة "العمل"، والإذاعة والتلفزة العموميتين.
وزيّنوا لرئيس الدولة سيّئ أعماله. باركوا تعديله المتكرّر للدستور على هواه، وتمديده الحكم لنفسه مدى الحياة، وأيّدوا قمعَه مخالفيه واستفرادَه بالحكم وتجميعه كلّ السلطات والصلاحيات بيده، وأخبروه أنّ الأوضاع على ما يُرام وأنّ الشعب خلفه ويشدّ أزره، وفي تمام الرضا على أدائه، وذلك على سبيل التزلّف والمغالطة. ومقابل ذلك الخطاب التمجيدي، أغدق الرئيس على مريديه من المثقفين المدّاحين المال. وعلى سبيل الذكر، كان يتمّ استدعاء شعراء وإعلاميين وفنّانين على امتداد شهر لإحياء عيد ميلاد الرئيس. وتنافس الجمع على تعداد خصاله وتكرار أقواله وذمّ معارضيه، وذكر منجزاته، فجرى اختزال الدولة في شخص الرئيس، حتّى قال بورقيبة: "الدولة هي أنا". ولم يقف مثقفو البلاط عند هذا الحدّ، بل أدمنوا تشويه المعارضين، فنعتوهم بالعمالة، والخيانة، والضلال، والتآمر على أمن الدولة، لأنّهم رفضوا حكم الحزب
الواحد والفرد الواحد. ومن ثمّة، ساهمت النخب النظامية على عهد بورقيبة، إلى حدّ كبير، في التعتيم على الواقع، وتضليل الناس، ومغالطة الحاكم نفسه لغايات وصولية/ فئوية ضيّقة.
ومع صعوده إلى سدّة الحكم إثر انقلاب أبيض على سلفه الحبيب بورقيبة، تشكّلت من حول زين العابدين بن علي مبكّرا جوقة مثقفين وظيفيين، تولّوا التنظير لسياساته، وشرعنة أحكامه، وتأييد ميوله السلطوية الجامحة، وتجميل صورته في الداخل والخارج. وكان لافتا أنّ بن علي استقطب جامعيين وقانونيين واستثمرهم في وضع المهاد التشريعي لحكمه الشمولي، وتجذيره في تربة دستورية. وأحدث ما يُعرف بالأكاديمية السياسية لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم وقتها، وأغدق عليها المال، بغاية تكوين منخرطي الحزب وأشياعه في العلوم السياسية، وتمكينهم من آليات الخطاب السياسي وتقنيات الحوار الحجاجي. والمراد صناعة جيشٍ من المثقفين الموالين للنظام الحاكم، والقادرين على ترويج مقولاته، ومساجلة خصومه، والدفاع عن توجّهاته السياسية الأحادية وخياراته التنموية الليبرالية، فليس المراد إنتاج مثقف نقدي، يتوفّر على وعي تاريخي عميق ومسؤول، بل القصد إنتاج مثقّف رديف للسلطة الحاكمة، وناطق باسمها. ولم يقف الرئيس المخلوع عند ذلك الحدّ، بل مدّ نفوذه إلى مؤسسات تشكيل الوعي الأساسية، مثل وزارات التربية والتعليم، والإعلام، والشؤون الدينية، ونصّب على إدارتها مثقفين موالين له، أدمنوا توظيف أجهزة الدولة ومقدّراتها لتكريس ثقافة تمجيد الرئيس والولاء للحزب الحاكم.
وفي سياق متّصل، أحدث بن علي وكالة الاتصال الخارجي التي أهدرت الكثير من أموال المجموعة الوطنية في استقطاب إعلاميين ومثقفين، تولّوا تلميع صورة النظام الديكتاتوري، وتبرير انتهاكاته حقوق الإنسان، وتشويه معارضيه. وأدّى ذلك عمليّا إلى ظهور جيلٍ من المثقفين النظاميين الانتهازيين الذين دأبوا على التغطية على الحقائق، وتزييف الواقع، واستبلاه الناس، وتنافسوا في رفع شعارات متهافتة من قبيل "بن علي حامي الحمى والدين"، و"صانع التغيير الذي لا يُشقّ له غبار"، و"المعجزة الاقتصادية التونسية الكبرى"، و"دولة القانون والمؤسّسات"، والحال أنّ البلد كان يرزح تحت كمٍّ هائلٍ من القمع والجور، والأكاذيب التي صنعها مثقفون نظاميون وصوليون احترفوا مغالطة الرأي العام، وغالطوا بن علي نفسه، ففرّ من البلد إبّان ثورة الناس عليه، ولسان حاله يقول: "سامحوني ... غلّطوني ... غلّطوني".
وبعد الثورة (2011)، أفل نسبيّا نجم المثقف النظامي التقليدي الذي وجد نفسه يعاني حالة فراغ باعتبار أنّ مدح السلطة الحاكمة لم يعد خطابا رائجا بيْن الناس. بل أصبح نقد الحاكم أعدل الأشياء قسمة بيْن الناس. ذلك أنّ منظومة الحكم الديمقراطي آمنت بثقافة الاختلاف، ولم تستمدّ شرعيتها من سطوة الشخص أو الحزب الحاكم، بل من صناديق الاقتراع التي كرّست التنوّع، وأتاحت التداول السلمي على السلطة، وقطعت مع احتكار طرفٍ معيّن للحكم. ونتيجة ذلك تحوّل المثقف النظامي إلى مهادنٍ للثورة حينا، مضادّ لها حينا آخر لأنّها سلبته الأبّهة والكثير من أدوار الزبونية والوصولية والبطولة الوهمية التي مارسها في عهود سابقة. واللافت أنّ مرحلة الانتقال الديمقراطي ساهمت في صعود المثقف العضوي، وتعزيز دوره النقدي في الفضاء العام وفي التأثير على صنّاع القرار. لكنّها تسامحت مع مثقفين نظاميين نظّروا للديكتاتورية وبرّروا سياساتها القامعة، وأمّنت على كيْفٍ ما إفلاتهم من المساءلة والمحاسبة.
أمّا في عهد قيس سعيّد، فيُمكن الحديث عن بوادر لإعادة تركيب صورة المثقّف النظامي الموالي للسلطة الحاكمة. وتجلّى ذلك من خلال عدّة مظاهر، من بيْنها بذْل بعض القانونجية (رجال القانون) الجهد للتقرّب من رئيس الجمهورية، وانخراطهم في تأييد قراراته الأحادية، وفي مقدّمتها حكم البلاد بالمراسيم، وحلّ البرلمان، والمجلس الأعلى للقضاء، وإلغاء دستور الثورة. لكن بمجرّد رفض سعيّد مقترحاتهم لوضع دستور جديد على طريقتهم، واعتماده دستوره الشخصي، انخرطوا في ذمّه بعد مدحه، وفي ذلك كثير من الانفصام والازدواجية. كما نصّب بعض قيادات الحملة الانتخابية لسعيّد أنفسهم مفسّرين لخطاباته، على سبيل التقرّب منه والتفاخر بصحبته وادّعاء امتلاك حقيقة هويته السياسية والبرامجية. وهو سلوك دأبت عليه النخب النظامية التقليدية التي كثيرا ما تدّعي الحُظوة لدى صانع القرار والوصاية على عقول الناس.
وبالغ بعض قيادات أحزاب الموالاة في تأييد المسار الرئاسي، وأطنبوا في إعلان رسائل الولاء وطقوس الطاعة للرجل، حتّى غدوا أكثر ملكيةً من الملك. وفي ذلك تجريد للحزب من دوره الطليعي/ الرقابي، وترجيع لصورة الأحزاب الكرتونية/ التمجيدية التي سئمها التونسيون عقودا. وفي سياق متّصل، أدمن محسوبون على الإعلام تأييد توجّهات سعيّد السلطوية بطريقة آلية، ارتجالية، على سبيل التزلّف، واستعادة صورة مثقف الظلّ، الملحق برئاسة الجمهورية. وبدا واضحا، بحسب مراقبين، من خلال استدعاء رئيس الجمهورية أخيرا مديرة التلفزة العمومية، واحتجاجه على خطّها التحريري، وعلى طريقة ترتيب الأخبار في النشرة الرئيسية، وجود رغبةٍ أكيدة لدى السلطة التنفيذية في الهيمنة على الإعلام العمومي وتوظيفه لترويج مشروع 25/07/2021 ومخرجاته. وهو ما دانته نقابة الصحافيين التونسيين بشدّة.
ختاما، ساهمت النخب الثقافية النظامية إلى حدّ معتبر في تزييف الوعي الجمعي، وغالطت الحاكم والمحكوم في السياق التونسي. ومع ذلك، ظلّت بعيدة عن المساءلة والمحاسبة والمراجعة النقدية، وذلك من بيْن أسباب هشاشة التحديث السياسي في تونس.