غضب غزة وبسالة شبابها أجبرانا على الإقرار بما رفض بعضنا طوال قرن رؤيته: الغزاة ضعفاء، وجيشهم الذي يعرف كيف يقتل الناس ويذلهم، لا يعرف المواجهة. أقام أهل غزة علينا الحجة. لقد جعلوا من دمهم ولحمهم معجزة تنفجر في وجه المحتل، فماذا نحن فاعلون؟ جوابنا على هذا السؤال هو ما سنرويه لأجيالنا القادمة، وهو ما سيسجله التاريخ لنا أو علينا.
منذ صبيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري توقفت حياة معظمنا، تسمرت عقولنا كأننا أمام حادثة خيالية. كان الذهول أولاً، ثم الشك في صحة ما يُروى، ثم رأينا بأمّ أعيننا ما تنقله وسائل الإعلام وشبكات التواصل. الصورة انقلبت تماماً، المقاومة تبادر إلى هجوم واسع على تحصينات العدو ومستعمراته. ليس هذا ما اعتدنا عليه من توغل إسرائيلي تتصدى له المقاومة، ولا هي عملية رداً على اغتيال إسرائيل لقائد من قادة المقاومة، أو أي هدف تكتيكي عرفناه في مواجهات سابقة. ملخص المشهد هو أن جيش إسرائيل يتصدع وتسقط مواقعه واحدا تلو الآخر. صَدق من أسمى هذه العملية طوفاناً. لم نتخيل يوماً أن نرى ضباطاً إسرائيليين أسرى بملابسهم الداخلية. كم كان مذلاً حين كنا نرى هذا المشهد معكوساً في اقتحامات إسرائيل لمواقع السلطة الفلسطينية وتنكيلها بعناصر شرطتها خلال الانتفاضة الثانية. ما الذي يحدث؟ هل هذا حلمٌ أم علم؟
لو كان سميح القاسم حياً، لقال لنا: ألا ترون أن في الشعر بعض النبوة؟ فعلاً! تقدّم المخيم. وغزة التي تبكينا، لأنها فينا ضراوة الغائب في حنينه الدامي للرجوع. غزة تقدّمت، وأقامت علينا الحجة. تقدّم المخيم، السجن المفتوح على السماء وحدها، وعلى قلوب أبنائه المثخنة بالغضب. غضب غزة وبسالة شبابها أجبرانا على الإقرار بما رفض بعضنا طوال قرن رؤيته: الغزاة ضعفاء، وجيشهم الذي يعرف كيف يقتل الناس ويذلهم، لا يعرف المواجهة.
أيامٌ من القتال مضتْ، وضعت إسرائيل فيها كل قوتها، خسرت أفضل ضباطها، وما زال المقاوِمون يقتحمون المستوطنات ومواقع الجيش في محيط غزة.
عسكرياً، سقطت فرقة إسرائيلية كاملة، فرقة غزة. أصبحت إسرائيل بلا جيش في محيط غزة مما اضطرها إلى استجلاب قوات خاصة وما تمكنت من سحبه من جنودها بالضفة الغربية وغيرها من المناطق، للزج بهم في الاشتباكات في جبهتها الجنوبية المنهارة. هذه المعلومات ليست بحاجة إلى جهاز استخبارات للوصول إليها، إذ يكفي النظر إلى أسماء ورتب القتلى العسكريين الإسرائيليين حول غزة: ضباطٌ مُهمّون ولهم تاريخ عملياتي تدلِّل عليه رتبهم وأوسمتهم، من البحرية إلى المخابرات إلى "قوات النخبة" بكافة أنواعها. قائد منطقة طولكرم بشمال الضفة يموت في أشكول شرق غزة، وغيرهم كثر.
كيف تضطر إسرائيل إلى الإعلان عن حال حرب للمرة الأولى منذ عشرات السنوات؟ كيف تخسر المعركة بهذا الشكل المخزي لجيشها أمام ما لا يزيد عن ألفي مقاتل؟ جنّ جنون إسرائيل وحلفائها غربيين وعرباً. هذه الدولة التي بُنيت كامتداد لجيش هو الأكثر تطوراً في العالم وكمصنع أسلحة. هذه القلعة المتقدمة للاستعمار في منطقتنا تقف اليوم مرتبكة، خائفة وعاجزة. ولأول مرة في تاريخ الصراع، شهدنا مذهولين، قوة عربية تتقدم على أرض فلسطين المحتلة عام 1948. وصل المقاوِمون إلى مسافات تبلغ ثلاثة أضعاف عمق غزة، وصار بعضهم أقرب إلى الضفة منه إلى غزة.
كيف استطاع هؤلاء المقاوِمون تركيع جيش أنفق المليارات لتأمين حدود غزة؟
هذا الجيل من المقاوِمين، هو جيل كبر في الانتفاضة الثانية، وعاش معارك المقاومة خلال سنوات الحصار، وتعلم كيف يطوِّر وسائل مواجهة إسرائيل في كل مرة. هؤلاء المقاوِمون هم أبناء تجربة الميدان، ومن تابع بدقة ما كان يحدث في المعارك السابقة، سيجد جذور كل أسلوب وتكتيك جديد استخدمته المقاومة في هذه المعركة. فقد بدأت أولى محاولات الإنزال البحري وكذلك الإنزال خلف خطوط العدو في عملية "نحال عوز" وغيرها من العمليات الموفقة والأقل توفيقاً في معركة 2014. هذه المرة تمّ تعزيز هذه التجارب وتطويرها لتكون جزءاً من عمل متكامل مخطط جيداً ومحضّر جيداً لإذلال جيش العدو. كانت المقاومة هذه المرة تعرف كيف تحيّد الكترونياً، عبر هجمات الـ"سايبر"، منظومة المراقبة، وكيف تعطِّل منظومة القيادة والتحكم لفرقة غزة. كل تفصيل في الدفاعات الإسرائيلية أوجد له المقاوِمون حلاً باحترافية وتمكّن. لا أدل على ذلك من جلبهم الجنرال "نمرودي" قائد الفرقة بلباسه الداخلي أسيراً. هذا الرجل حين عُيِّن قائداً لفرقة غزة سوّقه قادة الجيش الإسرائيلي على أنه من سيحل عقدة غزة ويحيِّدها تماماً.
لا شيء في المعركة كان عشوائياً: التمويه، التوقيت، والتحضير. لم يعرف بالأمر حتى بعض قادة حماس. ذهب المقاتلون إلى ساحة المعركة، قرأوا كل تفاصيلها في البيانات والصور الجوية الآتية من طائرات المقاومة المسيّرة وغيرها من اختراق أنظمة العدو، ذهبوا إلى معركة امتلكوا فيها كل ما يلزمهم من معلومات وتدريب، وتجهيز، وإرادة، وجنون.
جمالية المشهد تجاوزت أكثرنا تفاؤلاً، وكنتُ أحد هؤلاء المتفائلين الذين وقفوا مشدوهين أمام عظمة ما يحدث واكتشفوا كم كان تفاؤلهم متواضعاً. بعد اليوم الأول لهذه المعركة عدت لقراءة مقال نشر لي هنا، أثناء معركة "سيف القدس"، التي زرعت فينا أملاً عظيماً بأن نرى حلمنا بالحرية والعودة متحقِقاً. كنت أؤمن باليوم الذي سينتهي فيه فصلٌ أسود من تاريخنا كما انتهى غيره من مشاريع استعمار هذه البلاد، لكنني لم أتخيل أنّ هذا اليوم قريب كما أراه اليوم. لقد كنت متفائلاً، ومع ما أراه اليوم، على الرغم من المذبحة التي تحدث للمدنيين في غزة، أرى الضوء الأبيض على الطرف الآخر لنفق الكابوس الاستعماري.
لا أدلّ على حجم الصدمة والتخبط لدى جنود وضباط الاحتلال على حدود غزة أكثر من شهادة لمجندة إسرائيلية سابقة كانت تعمل في وحدات التحكم والمراقبة هناك. تشرح المجندة كيف يستحيل أن يحدث ما حدث، فقد كانت حركة عصفور بجوار الحدود كافية لإطلاق استنفار الوحدات العاملة. جدار غزة أو سياج غزة أو غيره من التسميات هي منظومة معقّدة من الموانع وأدوات الرقابة التي طورتها إسرائيل على مراحل متعددة بلا توقف.
طبيعة الأرض المحيطة بجانبي الحدود جرى تغييرها لتتناسب مع احتياجات الرقابة، فعلى الجانب الغزي من الحدود، فرضت إسرائيل عمقاً يتراوح بين خمسمئة متر وكيلو متر لا يسمح للمزارعين بالزراعة فيه، وفي أفضل الأحوال يسمح بزراعة القمح أو ما شابه من المحاصيل ذات الارتفاع المنخفض. وعلى الجانب الآخر، هناك أكثر من طبقة من الأسلاك الشائكة والجدران الاسمنتية والمساحات الفارغة، يضاف إليها كل ما يمكن تخيله من تكنولوجيا متطورة للاستشعار والرصد فوق الأرض وتحتها. الجدار يمتد لتسعة أمتار تحت الأرض، ومثلها فوقها. الرشاشات الآلية، تعمل أوتوماتيكياً ما أن تلتقط المجسات حركة ما "حتى لصرصور" تقول المجنّدة. كان هذا الجدار مفخرة نتنياهو، فقد كان هو صاحب هذا المشروع في فترة حكمه السابقة، وها هو يسقط تحت أقدام المقاوِمين أمام نتانياهو العائد للحكم.
هذه إسرائيل التي أريد لها أن تكون قوة عظمى في الشرق الأوسط، ليست إلا نمراً من ورق، هذا ما فهمه الجيل الجديد من مقاومينا، هذا ما ظهر في الاختبار. اليوم سيسعى إلى حماية إسرائيل كل من أراد لها أن تبقى شوكة في خاصرة المنطقة، سيسعى إلى الذهاب إلى حمامات دم دفاعاً عنها. لكن ما حدث قد حدث، إسرائيل كفكرة بدأت نهايتها تحت بسطار الفدائي الذي ولد في سجن غزة الكبير.
بدأت إسرائيل في هجمة تسترد فيها كرامة جيشها. فهذه الدولة تتلخص في جيش أنبت حوله مجتمعاً، وهذا المجتمع يطلب الدم، ودمنا لا قيمة له في نظرهم. أمريكا ومن دار في فلكها، هذه الدول ترى في إسرائيل جزءاً من هوية غرب جمعي تتماهى معه، وتعتبرها يده الضاربة وقلعته المتقدمة في المشرق، وهي مستعدة للذهاب إلى أبعد ما يمكن دفاعاً عن تفوق إسرائيل. تحركت البوارج وحاملات الطائرات، طواقم الخبراء أتت لتقود معركة إسرائيل مع غزة، وإعلام هذا الغرب وسياسيوه لبسوا عدّة الحرب، مطْلقين التصريحات النارية بلا حساب، لتحضير الرأي العام لحمام دم بشع.
إذلال إسرائيل جعل الأمور تتجه نحو مواجهة صعبة، ومعركة لا تدخلها إسرائيل لو لم يكن يقف وراءها كل الغرب، بل هو من أمامها: فاليوم يقود العمليات ضباط أمريكا، وتصدر أوامر العمليات من البيت الأبيض. وأوروبا، حمْل الغرب الوديع الداعي إلى السلم عادة، انتفضت حكوماتها وإعلامها دفاعاً عن إسرائيل. بل وصل الأمر بأوروبا إلى بحث وقف التمويل حتى عن السلطة، التي لا تتوانى عن ملاحقة المقاوِمين ليلاً نهاراً، بل وتمنع تظاهرات التضامن مع غزة في الضفة.
المطلوب أمريكياً وغرْبياً، هو رأس المقاومة، لا هذا الطرف أو ذاك، ولا فلان أو علان. بل ما يطلبه عدونا اليوم هو إخماد إرادة المقاومة لدى شعوبنا بكل ما للكلمة من معنى. المطلوب منا أن نكون أذلاء خاضعين نقبل بالدور الذي يتفضل به المستعمر علينا.
لا حاجة هنا للتذكير، كما كل مرة، بالأنظمة المتهتكة، والتي تجد في إسرائيل حامياً ونموذجاً يحتذى، ولا حاجة للتذكير أيضاً بجبناء كثر يخافون على امتيازاتٍ ما هي إلا فُتات. كل هؤلاء، سراً أو علناً، ترتعد فرائصهم، ويتمنون أن يفيقوا من هذا الكابوس. هؤلاء هم جيش إضافي للعدو.
غزة اليوم تتحضر لمجزرة تفوق كل ما رأيناه في السنوات الماضية. مشاهد القصف والتدمير بينما ما نزال في الأيام الأولى للمواجهة، يفوق بمرات التدمير الحاصل في حرب 2014 الأكثر دموية. خلال ساعات قليلة، صور الدمار وما يصفه الناس هناك، تفوق القدرة على التخيل لدى كل من عرف غزة. حي الرمال، الحي المديني المترف نسبياً، مُسح نصفه من الوجود. منطقة الترنس في مخيم جباليا الأكثر اكتظاظاً، منطقة السوق في النصيرات، بيت حانون، شرق خانيونس… وقائمة الأحياء المدمرة تكبر كل ساعة. البيوت والمدارس والجامعات والمساجد والمستشفيات، لا شيء ينجو من آلة القتل.
استدعت إسرائيل أكثر من ربع مليون جندي من الاحتياط، كما يتهافت عليها المتطوعون الصهاينة من الولايات المتحدة وفرنسا وغيرها. في الجهة المقابلة، يقف ما يزيد قليلاً عن أربعين ألف مقاتل ليدافعوا عما تبقّى من كرامتنا.
هذا المشهد يستدعي أولاً أن نقف كل من مكانه أمام مسؤوليتنا التاريخية، تجاه ذاتنا الجمعية، وتجاه أجيالنا القادمة. المعركة اليوم بحاجة إلى تجاوز التشوهات والتفسخات التي تعاني منها المنطقة. وإذا استطاع هؤلاء أن يبدعوا في هذا المشهد البطولي، فلا عذر لأي كان في أن يتخاذل أو يبحث عن مبررات واهية.
نعم هناك خلافات عميقة بين قوى أساسية وهامة في المنطقة تقسمها أفقياً وعمودياً. هناك خلافات في كل بلد وكل مجتمع بالمنطقة، ولولا هذه الخلافات لما استطاعت إسرائيل أن تكون بعبع الشرق الأوسط، ولما كانت إسرائيل قد قامت من الأساس. هذه الدولة المستعمِرة، ما هي إلا التقيّح على الجلد الذي يشير إلى استشراء السرطان. أما السرطان فهو الهزيمة الساكنة في عمق البنى والنخب والمجتمعات في منطقتنا. لا أدّعي هنا امتلاك الحل، فحلي الشخصي هو ذاك الذي حملته معي من طفولتي في المخيم، حيث مهما بلَغتِ الخصومة بين الناس، ما أن تمر دورية إسرائيلية حتى يمطرها كل الناس بالحجارة. هذه هي معادلة الاشتباك البسيطة، ولسنا بحاجة إلى كلمات كبيرة لتوصيفها.
دورنا، نخباً وشعوباً، لا يقتصر على التصفيق للمقاوِمين والإعجاب بفعلهم، هؤلاء المقاومون الذين رأيتموهم بالأمس، لا نعرف أيّهم سقط شهيداً ومن سيسقط. كل واحد منهم له أم وأهل يرونه أكبر من كل إسرائيل ومن وَالاها. لهم ناس أحبوهم، ومن يسقط منهم لا يبقى منه إلا ألم الفراق. لا حاجة لي هنا إلى استجداء موقف ممن يُفترض بهم أن يكونوا جزءاً من المعركة، فكلنا نعرف أن كل ثانية تمر، يسقط فيها أناس أحباء أعزاء، حذاء كل منهم أهم من كل خلاف أو اختلاف. الصواريخ التي نشاهدها تسقط على رؤوس ناس هم إخوتنا وأخواتنا وأمهاتنا وشيوخنا وأطفالنا، وتقتلهم. الموت بالجملة حقيقي بكل ما للموت من قسوة، والحياة تحت قصف مجنون مرعبة كما لا نتخيل. هذه ليست مشاهد فيلم سينمائي نصفِّق فيه للبطل ونحزن على الضحية، بل هي حياة وموت أحبائنا.
من يدعونا اليوم إلى المعركة ليس هو القائد الفذ المفدّى، ولا فرقعات إعلام منظومات متهتكة، تبث أخبار انتصارات وهمية، بل هي بطولة ناسنا وأهلنا وتضحياتهم. أولئك الذين قدموا كل ما لديهم ولم يستبقوا سوى حبهم وتوقهم إلى الحرية. لقد أقام أهل غزة علينا الحجة، لقد جعلوا من دمهم ولحمهم معجزة تنفجر في وجه المحتل، فماذا نحن فاعلون؟ جوابنا على هذا السؤال هو ما سنرويه لأجيالنا القادمة، وهو ما سيسجله التاريخ لنا أو علينا.