إن الانطلاق من الصورة الإعلامية التي تنقل أخبار العدوان الصهيوني على غزة، وطريقة التوصيف لهذه المجازر، ومتابعة التصريحات الرسمية من مختلف الدول، كل هذا يؤدي إلى تشويه الحقيقة الكبرى التي تمثلها هذه الحملة الغربية الواسعة على الغزاويين، وتحشر تفكيرنا داخل نمط من التصورات ينتمي لما يراد لنا أن نقف عنده ولا تتجاوزه، وذلك هو فكرة: القضية الفلسطينية.
إن الذي يحدث أكبر من ذلك بكثير، إن هذا المشهد ينبغي أن يقرأ في صورة أكبر ينبغي لها أن تعود إلى جذور المشروع الصهيوني، وإلى طريقة توظيفه من الدول الكبرى ليكون أداة ضمن عالم ما بعد الحركة الاستعمارية، وأحد ترتيبات التسوية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية: من وعد بلفور إلى قرار التقسيم.
لا تعد فلسطين قضية فلسطينية إلا من حيث الأرض التي يجري عليها الصراع، ولا يعد الكيان خصما منفردا إلا من حيث وجوده كدولة متوهمة لعنصر ديني طبقي متعدد الأعراق مفكك المشاعر، تخوض صراعا لأجل تحقيق بقاء واستمرار لا يمتلك الممكنات التاريخية والجغرافية، والحقيقة أن هذه الساحة (فلسطين الكاملة) هو الامتداد لصراع بين الغرب والشرق، صراع قادم من زمن بعيد، يحمل اليوم صورة السعي الغربي لتفكيك العالم العربي وتجزئته، وإشغال الأمة الإسلامية وتعويقها، من خلال نصب منصة مراقبة داخل أراضيها، تكلف بوظيفة المراقبة والاستنزاف والتفكيك وإثارة الفتن والصراعات وتغذية الصراعات الطائفية والاثنية وضمان استمراريتها لتستنفذ أكبر ما يمكن استنفاذه من الموارد والطاقات البشرية والعقول والحسابات، فلا تتطلع للمنافسة على الحاضر أو المستقبل.
إن الكيان حتى وإن نظر لنفسه أنه مستقل ويملك قراره عبر الانتخابات وقرارات الكنيست وحياد القضاء بين بني صهيون، إلا أن الهبة الغربية وتحريك حاملات الطائرات وتعزيز الدعم العسكري واللوجستيكي والانزال المستمر لرؤساء وقادة الدول الغربية، والخطاب الاعلامي الذي تحول إلى إعلام حرب، كل ذلك برهان على وظيفية الكيان لصالح من يدعمه، وعن وعي ناتج عن رؤية وتخطيط للفوارق الجوهرية بين الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية، وعن ضرورة استمرار هذه الدولة اللقيطة المكلفة بمهمة، ومنعها من التهاوي في ظل وجود فكرة عميقة موطنة على الفرار من أرض "الميعاد" نحو أرض الميلاد أو أرض الأصول.
الذي حدث بسبب الخيبات القديمة، والهزائم المتكررة، أن الأنظمة العربية بدأت بالتدريج تعيد تعريف القضية، وتسحبها من خصوصيتها داخل المنظور الحضاري والاستراتيجي إلى مجرد حالة عدوان ومقاومة دون أبعاد أخرى، وهكذا بدل الاستمرار في تنظيم الاعداد لتجاوز هذه الحالة الشاذة، نقل أنور السادات ثم الملك حسين - وأمثالهما من أدوات الغرب في الشرق- القضية إلى دائرة وهمية اسمها: مشروع السلام مع كيان مخترع وشعب مخترع لأجل مشروع غربي توسعي وتفكيكي، وانتهى الأمر ضمن هذا المسار إلى لعنة المبادرة العربية (تطبيع كامل مع وقف التنفيذ) يسلم بوجود هذه الدولة المخترعة ويستجديها لتقبل اليد الممدودة لها، ثم بلغ التيه والضياع من نخب الجيل الثاني بعد استقلال الدول العربية أن تم الارتماء في حضن الكيان للاحتماء به!!!