"هل تدين هجمات حماس أو ما فعلته في السابع من أكتوبر؟". هذا السؤال هو أوّل ما يتم طرحه في معظم اللقاءات التي تجريها الوسائل الإعلامية الغربية مع ضيوفها الناقدين أو المنتقدين لإسرائيل، عند مناقشة الأوضاع الحالية في إسرائيل وفلسطين. في مواجهة هذا السؤال، كان هناك غالبًا نوعان من الإجابات أو المواقف.
من ناحيةٍ أولى، كان هناك مَن رفض الإجابة ورفض السؤال من حيث المبدأ، لأنّه رأى فيه أحاديةً ورؤيةً مبتورةً، وربّما موتورةً، منحازةً مسبقًا لطرفٍ (إسرائيل) على حساب الطرف الفلسطيني؛ من حيث إنّ السؤال يطلب من الضحية إدانة نفسها، وبغضّ النظر عن جرائم الطرف الآخر، أو يبرّرها ويسوّغها، بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرةٍ. في المقابل، رأى كثيرون أنّ رفض إدانة قتل المدنيين وخطف الأطفال وكبار السن كان أمرًا خاطئًا، لأنّه أظهر الرافضين بمظهر الموافق على الجريمة، والمسوّغ لها، لدرجةٍ أو لأخرى.
من ناحيةٍ ثانيةٍ، كان هناك من يسلّم فورًا بضرورة إدانة هجمات حماس إدانةً كاملةً، ليتفرّغ بعدها إلى الحديث عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي، قبل تلك الهجمات وبعدها، وإظهار أنّ التاريخ (تاريخ الصراع والجرائم والضحايا) لم يبدأ مع هذه الهجمات، ولم ينته بها أو معها. فقبل تلك الهجمات، ثمّة عقودٌ طويلةٌ من الاحتلال والاستيطان والقصف والحصار والاعتقالات (الإدارية) التعسفية …إلخ. وبعد تلك الهجمات، ثمّة هجمات أكثر وحشيةً وإجرامًا وفتكًا بالمدنيين، كمًّا وكيفًا. أحيانًا، كان هذا الطرف يسعى إلى إدانة الجرائم والتعاطف مع الضحايا، بغضّ النظر عن الجهة التي ارتكبت تلك الجرائم وبغضّ النظر عن جنسية أو هوية الضحايا.
من بين المتبنين، جزئيًّا على الأقل، للموقف الثاني يمكن أن نشير، على سبيل المثال، إلى الفيلسوفة والأكاديمية الأميركية (اليهودية) جوديث بتلر (التي كتبتُ تدوينتي السابقة عن موقفها ونصها في هذا الخصوص، وتُرجم نصها لاحقًا إلى العربية) والفيلسوف السلوفيني المعروف سلافوي جيجك، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس. فهذا الأخير رأى أنّ "لا شيء يبرّر الهجمات المروعة من قبل حماس" التي أدانها إدانة كاملة، لكنه أشار إلى أنّ "الشعب الفلسطيني يخضع لاحتلال خانق على مدى 56 عاما"، وأنّ "هجوم حماس لم يأت من فراغ"، محذّراً من "العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني".
ونجد الأمر ذاته تقريبًا عند بتلر، في نصّها الموسوم بـ"بوصلة الحِداد"، وعند جيجيك، في خطابه في "معرض فرانكفورت الدولي للكتاب" الذي أقيم أخيرًا. فكلاهما انتقدا "منع التحليل والتحدّث بحرية عن خلفيات هجمات حماس وتاريخ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، السائد في ألمانيا وعددٍ من البلدان الغربية"، وكلاهما كرّر أكثر من مرّة الإدانة الكاملة والقاطعة والمطلقة غير المشروطة لهجمات حماس، بدون أيّ تحفظ أو لكننة أو نسبنة. في المقابل، كلاهما أصرّ على ضرورة تحليل أو فهم الأوضاع السيئة التي يعيش فيها الفلسطينيون، منذ عقودٍ طويلة، والجرائم التي اقترفتها إسرائيل، والخطابات والأفكار التي يتبناها بعض قادتها الحاليين أو السابقين، والتي "قد لا تقل سوءًا، أو تزيده" عن أفكار حماس في خصوص "تدمير إسرائيل".
تعرّض هذا النقد أو الانتقاد المزدوج الذي تبنته الشخصيات المذكورة وغيرها للعديد من الانتقادات حتى من الأطراف المؤيّدة أو المنصفة للقضية الفلسطينية، ومن بين تلك الانتقادات أنّ ذلك الموقف يساوي، في إدانته، صراحةً أو ضمنًا، بين طرفين متفاوتين وغير متساويين في المسؤولية عن العنف والجرائم، وفي عدد الضحايا والمظالم وكيفها. لكن كثيرين رأوا أنّ الحد الأدنى الذي يمكن السعي إلى تحقيقه في السياق الغربي المنحاز بشدّة لإسرائيل هو التشديد على المساواة المذكورة. أما المفاضلة المنصفة بين الطرفين فأمرٌ غير ممكنٍ، أو غير مناسبٍ، في مثل تلك السياقات.
من منظورٍ معرفيٍّ مدقّقٍ، يعاني ذلك الانتقاد المزدوج، غالبًا، من توتّرٍ بين طرفيه. وقد تجنّب معظم متبنيه تناوله وتحليله وتوضيح العلاقة (السببية) بين طرفيه. فما العلاقة (السببية) بين هجمات حماس والممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين طيلة تلك العقود الطويلة؟ وإذا كانت هناك علاقة سببية ما بين الطرفين، بحيث إنّ الممارسات المذكورة كانت أحد (أهم) الأسباب التي أدّت إلى الهجمات المذكورة، ألا يعني ذلك أنّ إدانة تلك الهجمات تعني، صراحةً أو ضمنًا، إدانةً لإسرائيل نفسها، وأنّ حماس لا تتحمّل كامل المسؤولية عن تلك الهجمات، وبالتالي فإنّ إدانتها ينبغي أن تكون مطلقة وجزئية ونسبية فقط؟ إذا كانت الإجابة عن مثل السؤالين السابقين هي بالإيجاب، كما يرى كثيرون، لم الإصرار على تقديم إدانة حماس وهجماتها في صيغة الإطلاق، وعدم تحميل إسرائيل درجةً ما من المسؤولية؟
في الواقع، هذا هو بالتحديد ما تخشاه أو ترفضه إسرائيل والدول والأطراف الداعمة لها. إنّ أيّ تحليل أو فهمٍ لهجمات حماس يمكن أن يفضي، أو يفضي بالضرورة، إلى تحميل إسرائيل (جزءٍ من) المسؤولية، السياسية والقانونية والأخلاقية، عن تلك الهجمات، وما نتج عنها من ضحايا. ولهذا كان وما زال هناك إصرارٌ إسرائيليٌّ على إيقاف عقارب ساعة التاريخ، عند السابع من أكتوبر، من خلال جعل تلك الهجمات بداية التاريخ ونهايته، في الوقت نفسه. فلا شيء قبلها يمكن أن يساعد على فهمها، ولا شيء بعدها يمكن مقارنته بها، وكلّ ما تلاها هو مجرّد نتيجةٍ حتميةٍ ومشروعةٍ لها.
تمثل العلاقة بين بنية نظام الاحتلال الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني وهجمات حماس نموذجًا لإحدى أهم الثنائيات المعرفية والمنهجية في العلوم الإنسانية والاجتماعية عمومًا، وفي العلوم السياسية خصوصًا. وقد تناولت تلك الثنائية في كتابي "نصوصٌ نقديةٌ في الفكر السياسيِّ والثورة واللجوء": البنية وفاعلية الذات "agency".
ولشرح طرفي تلك الثنائية أقتبس، من كتابي المذكور، ما يلي: "يحيل مفهوم البنية إلى سمات الواقع أو عناصره المستقلة عن الإرادة الإنسانية، وإلى إسهام هذه السمات في توجيه صيرورة الواقع وإرادة البشر والتحكم بهما. ويمكن لهذه البنية أن تكون نفسيةً أو اجتماعيةً أو اقتصاديةً … إلخ. وفي المقابل، يحيل مفهوم فاعلية الذات إلى إرادة الإنسان وحريته ووعيه وقدرته النسبية على المبادرة والفعل والسعي إلى تحقيق ما يريده. ويختلف الباحثون، في الفلسفة والعلوم الإنسانية، في رؤية الواقع الإنساني، انطلاقًا من هذه الثنائية: فمنهم من يقوم بتشخيص الواقع وتفسيره واستشفاف آفاقه، على أساس فهم البنى القائمة أو الكامنة فيه، ولا يرى في أفعال البشر إلا صدى لهذه البنى؛ ومنهم من يعمل على إبراز دور الإنسان والفرد، ولا يرى في البنى إلا نتاجًا لهذا الفعل. وفي مقابل هذين الموقفين القطبيين، يميل معظم المنظّرين للعلوم الإنسانية والاجتماعية، خلال العقود الأخيرة خصوصًا (بيير بورديو وأنطوني جيدنز ومارغريت أرتشر، على سبيل المثال)، إلى الجمع بين طرفي هذه الثنائية، وإظهار الجدل بين قطبيها وتكاملهما [بوصفهما] وجهين لعملة واحدة، على حدِّ تعبير جيدنز".
إنّ تلك العلاقة الجدلية بين طرفي الثنائية المذكورة هي التي غابت أو غُيِّبت في الانتقادات المزدوجة المذكورة. ولهذا بدا التوتر والخلل المعرفي قائمًا في الموقف المزدوج المذكور. ولأسبابٍ معرفيةٍ عمومًا، وسياسيةٍ أيضًا خصوصًا، في هذا السياق، ليست سهلةً عمومًا محاولة بناء أو إظهار الجدل المذكور. والصعوبة المعرفية لإقامة ذلك الجدل، لا تتعلق بالتناول المعرفي الرصين للسياق الفلسطيني فقط، بل تمتد إلى كلّ السياقات السياسية والاجتماعية عمومًا. وقد بدا ذلك واضحًا في كتاب "عطب الذات"، حيث كان كاتبه برهان غليون واعيًا بتلك الثنائية وبالتوتر والإقصاء الجزئي المتبادل بين طرفيها؛ لذا حاول، بأكثر من طريقةٍ، تحقيق التوازن الجزئي، على الأقل، بين هذين الطرفين.
وفي مقابل الإصرار الإسرائيلي على تحميل حماس المسؤولية الكاملة عن هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ورفض أيّ حديثٍ عن مسؤولية بنية الاحتلال الإسرائيلي وممارساته عن هذه الهجمات، نجد، في الطرف المقابل، من يصوَّر تلك الهجمات على أنّها نتيجةٌ حتميةٌ لتلك البنية الموضوعية، وينفي أي مسؤولية لحركة حماس عنها؛ بل يجعل من وجود حماس ذاتها، بأيديولوجيتها وتحالفاتها وخطاباتها وممارساتها تجاه الإسرائيليين والفلسطينيين مجرّد ردّ فعلٍ على البنية المذكورة.
من المنظور المعرفي، يبدو ضروريًّا تجاوز هذين المنظورين الأيديولوجيين، بحيث نستبعد محاولات تبرئة إسرائيل من مسؤوليتها التاريخية والبنيوية، السياسية والأخلاقية والقانونية، عن الضحايا الفلسطينيين والإسرائيليين، على حدٍّ سواءٍ، من جهةٍ أولى، ونظهر أنّ مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بالطريقة الحمساوية، ليس أمرًا حتميًّا، وهو أحد الخيارات المفروضة على الفلسطينيين، بالقوة، من جهةٍ ثانيةٍ. ومن الضروري إفساح المجال للفلسطينيين لممارسة حقهم في تقرير مصيرهم، من خلال عمليةٍ ديمقراطيةٍ تسمح لهم بالتعبير الحر عن خياراتهم وتوجّهاتهم، بدلًا من فرض سلطات الأمر الواقع أجندة وأيديولوجيةٍ مليشياويةٍ ضيّقة عليهم. ومن الواضح أنّ الاحتلال الإسرائيلي ليس المسؤول الوحيد عن عرقلة العملية الديمقراطية المذكورة، وعن عرقلة حصول الفلسطينيين على حق تقرير المصير، من خلال عمليةٍ ديمقراطيةٍ. وأكتفي بذلك، على أمل استكمال مناقشة هذه المسألة المهمة في تدوينة قادمةٍ.