«الخطاب للأمة» الذي ألقاه الرئيس عبد المجيد تبون أول أمس أمام غرفتي البرلمان مجتمعتين دام ساعة و45 دقيقة وكان نصف ساعة كافيا لما كان يريد قوله ǃ لابد أن ننتبه جيدا إلى أن هذا الخطاب لم يأت إلا في السنة الأخيرة منذ أن اعتلى الخطيب عرش المرادية. إضافة إلى ذلك، وكما كان متوقعا، لقد جاء الخطاب عبارة عن مجرد إشادة بالذات، مصحوبة بذكر صاحبه لفضله بعد أن قرر الزيادة في الأجور والمنح وكأنها صدقة. لم يتضمن الخطاب أية إشارة إلى أنواع المعاناة التي يعيشها المواطنون نتيجة غلاء المعيشة المتصاعد ولا إلى مأساة الحرقة وهجرة الطاقات الشابة التي تكوّنت هنا ليستغلها الخارج.
طبعا، «الخطاب للأمة» لا يسمح بالنقاش. كما أنه جاء بتوقيت لا نملك إلا أن نربطه بنية عبد المجيد تبون (ومحيطه) في الترشح لعهدة ثانية خاصة وأنه كانت هناك أصوات «عفوية» من الحضور دعته إلى الترشح لعهدة ثانية فرد عليها «إن شاء الله يعطيني الصحة الكافية». معنى ذلك أن النية موجودة. وعليه، فيبدو أن عبد المجيد تبون ومن حوله قد حرصوا على التعبير عن هذه النية في مناسبة حافلة، فجاءت فكرة «خطاب للأمة» على الرغم من أن الدستور لا ينص عليها البتة. فهناك المادة 84 منه لا تنص إلا عن أن «له [رئيس الجمهورية] أن يخاطب الأمة مباشرة» وليس عن طريق البرلمان. المادة 150 هي التي تنص على مخاطبة البرلمان: «يمكن رئيس الجمهورية أن يوجه خطابا للبرلمان». كما نرى، الحالتان تختلفان كما أنهما غير ملزمتين (مسألة ڤوسطو ǃ). ثم إنه من الواضح أن الإجراء الذي اتخذه عبد المجيد تبون لا يندرج في مجال المراسيم بل يقتضي تعديلا دستوريا أولا. هذا خرق للدستور ǃ على أية حال تلك عادة دأب عليها الفاقدون، أصلا، لثقافة الدستور.
يقول الرئيس تبون إن خطابه للأمة «هو تأسيس لسنّة حميدة للوقوف على ما تم إنجازه في سبيل تجسيد الأهداف النبيلة التي خرج من أجلها الشعب الجزائري في فبراير 2019 للمطالبة بالتغيير. ǃ» في حين أن هذا الشعب لم يعد له الحق في التعبير بعد قهر الحراك والزج بعدد من الحراكيين في السجن لأنهم مارسوا حرية التعبير التي يكفلها الدستور لكن يسحبها قانون العقوبات. عندنا، تدرّج القوانين يمشي على راسو.
لكن ما يلفت الانتباه، بصورة أخص، في الخطاب قول عبد المجيد تبون: «لم يكن بوسعي ... أن أتخلف عن نداء الملايين من أبناء شعبنا المطالبين بإنقاذ بلادنا...» *. غير أن المعروف أن القيادة العسكرية، في مقدمتها الڤايد صالح، هي التي نظمت كل شيء. وإني لأتذكر جيدا تلك القبلة الحارة التي حظي بها هذا الضابط من طرف الرئيس المنتخب بعد تنصيبه اعترافا بالفضل. ثم يضيف: «لم يكن البرنامج الذي قدمته للشعب الجزائري حينها إلا ترجمة وفية لتلك المطالب المشروعة التي نادى بها الحراك المبارك الأصيل والذي حظي بموافقة الشعب الجزائري خلال الانتخابات الرئاسية.». «الحراك المبارك الأصيل» المقصود به هو ذلك الذي استغلوه للوصول إلى الحكم ليقهروا، بعد ذلك، كل تظاهر. أما كون البرنامج «الذي حظي بموافقة الشعب الجزائري خلال الانتخابات الرئاسية»، فإن نتائج الانتخابات الرسمية نفسها، ومن دون الدخول في التفاصيل، تؤكد عكس ذلك إذ حاز الرئيس المنتخب خمسة ملايين صوتا تقريبا من أصل 24.5 مليون ناخب، أي الخُمُس، وبنسبة امتناع فاقت 60 %. هذه النتائج، غير المشرِّفة، لم تكن بسبب مقاطعة ولايات بأكملها بل أيضا بنسبة الامتناع القياسية التي عرفتها كبريات مدن البلاد.
يخاطب الرئيس تبون النواب قائلا: «أشهد لكم بالنزاهة وأنكم أول برلمان انتخب بعيدا عن المال الفاسد. هنيئا لنا جميعا بهذا البرلمان». صح، هنيئا لكم جميعا ǃ لكن برلمانكم هذا، هو الآخر، غير مشروع لأنه انتُخب في ظروف أتعس مما كانت عليه في الانتخابات الرئاسية بحيث لم تتجاوز نسبة المشاركة 18 % بعد خصم الأصوات الملغاة. كما أن الأغلبية في المجلس عادت إلى أحزاب لم تتعدّ نسبة الأصوات التي حصلت عليها 15 % من المجموع. وما يلفت الانتباه أكثر هو أن «الأحزاب الفائزة بالأغلبية» هي ذاتها «أحزاب التحالف» (أو "التعالف» كما يحلو للبعض أن يقول) التي سادت في زمن عصابة النظام البوتفليقي. التاريخ يظل يلاحقكم لأن ما بُني على باطل هو باطل ǃ
مدنية ماشي عسكرية-أمنية ǃ
* على أية حال، ما من رئيس يأتي إلا ليقول لنا إنما جاء « لتلبية النداء » ، مثله مثل ذلك الذي اقتحم بيتك ثم يحاول إقناعك وكأنك أنت الذي استضفته ثم يتصرف كما شاء في بيتك، منتظرا منك التسبيح بحمده.