كيف صار الغرب صهيونيا؟

أو محاولة في تفكيك تشابك جذور الدّعم الغربيّ المطلق للكيان الصّهيونيّ في حربه على غزة

" لعن اللّذين كفروا من بني إسرائيل، على لسان داوُود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوْا وكانوا يعتدون، كانوا لا ينهوْن عن منكر فعلوه لَبِئسَ ما كانوا يفعلون " 81- 82 المائدة

يصعب فهم ما يجري منذ خمس وسبعين عاما وما قبله بفلسطين دون البحث عن الجذور التاريخيّة العميقة الحقيقية التي أسّست لإقامة دولة الكيان الصّهيوني وساهمت مساهمة مفصلية شمولية عبر التاريخ المعاصر في دعم وجودها السياسيّا لأبّرتايدي، وذلك من خلال تعزيز الغرب الاحتلال الغاصب بكل الآليات والوسائل القانونية والعسكرية-التكنولوجية الإرهابية المتاحة دون انقطاع.

وما نشهده اليوم في غزّة والضّفة الغربية، وهو ما تبقّى من فلسطين التّاريخية، بعد طوفان الأقصى، من إبادة جماعية للفلسطينيين وتخريب ممنهج للمدن والقرى واستحالة حتى العيش فيها،إلا بإعادة نسج معمارها من جديد،هو نتاج تاريخ اليهود بأشتاته،الذي يتأرجح بتكوينه الجغراسياسيالإثني الديني-المالي المزدوج بين الوطن العربي والغرب بإرثه الخزري اليهودي والسفاريدمي والجرماني الضارب في البنية الإثنيّة الغربية.

فكيف يمكن في هذا السياق تحديدوتفكيك تشابك جذور مساندة الغرب المطلقة للكيان الصهيوني في حربه على غزّة؟ وكيف ينعكس تشابك العلاقات التاريخيّة والدّينية والماليّة والثّقافية في العلاقات بين الطرفين؟وإلى أيّ مدى يمكن اعتبار الصّهيونية قلب اليهودية-المسيحية النّابض؟ أو بالأحرى إلى أيّ نتائج أفضت البحوث الجينية في رسم الإرث الجينيّ اليهوديّ؟وهل العلاقات العربيّة-الصّهيونيةالمعلنة منهاوالسّرّية لها دور في تعميق تجذير الكيان الصّهيوني بفلسطين والمنطقة العربيّة بصفة عامّة؟

سؤال حول بداية البدايات

لإدراك عمق مساندة الغرب للكيان الصّهيونيّ المختلفة، التي سنكشف عنها لاحقا، لابدّ من تحديد بداية هجرة اليهود إلى أوروباوالولايات المتّحدة وبقيّة دول العالم فيما بعد،بل تحديد خروجهم من اليمن،وبالتّحديد من ربوع جبال سراة والجزيرة العربية بصفة أعمّ، قاصدين فلسطين حيث استقّر اليبوسيّون منذ قرون، وذلكإثر موجات متتاليةتمتدّ ما بين 66 إلى 135ق.م، وهي كذلك حقبة تجسّدالحروب اليهودية-الرّومانية، التي انتهت إلى ما أطلق عليهابثورة اليهود سنة 70 ق. م،والتي أدّت في آخر المطاف إلى استسلامهم، كما يتواتر ذلك بأقلام المؤرّخين اليهود والغربيّين أنفسهم، غير أنّ هذا المعطى التّاريخيّ ينقضه نسبيا مؤرخون عرب،بكونه يفنّد تأريخ الأحداث للمؤرخين اليهود، ككمال الصّليبي وأحمد داوود وفرج الله ديب وزياد منى وأحمد عيد وأحمد الدّبش وفاضل الرّبيعي وغيرهم، اللّذين بدورهم اعتمدوا على أطروحات دوّنها مستشرقون غربيون تثير تساؤلات عدّة كالنمساوي ألويس مزيلوالإنجليزي ديفيد صوئيل مرجليوث والألماني هوغو ونكل، إذ كلّهم يعتبرون أن اليهود "اختطفوا جغرافية الأنبياء اليمنية" الأصل،مستبدلين إياها بجغرافية فلسطين التّاريخيّة، حيث علماء الآثار الإنجليزيين وغيرهم أسقطوا أسماء القرى والمدن الفلسطينية الأصل بأسماء توراتية بجغرافيتها اليمنيّة منذ القرن 18، وفي نفس الوقت كلّهم يشدّدون على أن اليهود اختلطوا بالرّومان إثرإخضاع الجزيرة العربيّة لهم، وساندوا الأخيرين منذ ذلك الحين على بسط نفوذهم على المنطقة العربيّة.

ويجدر الانتباه إلى أن السّبي البابلي لليهود لم يشمل فقط اليهود وإنّما أيضا قبائل عربيّة كانت متمرّدة على السّلطة البابلية، لكن لم يتمّ ذلك من فلسطين إلى بابل كما يدّعي اليهود، وإنّما قد تمّ من فلس، عاصمة "الفلستنيين"(قبيلة الفلاشة الأثيوبية اليهودية) بجبل فلس اليمني سنة 597 ق.م، وهي المدينة التي استولى عليها اليهود بعد خروج "الفلستنيين" منها، بحيث لا بدّ من الإشارةهنا أيضا إلى أنّ بلقيس الوثنيّة ملكة سبأ لم تتوجّه إلى القدس، كما يدّعي المؤرّخون اليهود، وإنّما إلى فلس التي توجد على مرمى حجر من سبأ، والتي تحوّلت فيما بعد إلى أورشليم، حيث على ما يبدو -حسب السّردية التّاريخية اليهودية- أنّها التقت بالنبيّ سليمان ملك القبائل اليهوديّة، التي بدوره وحّدها بعد عناء طويل إثر هزيمتهم ضدّ"الفلستنيين".

وإن اختلاط اليهود بالرّومان كما ينصّ عليه المؤرّخون القدماء قدساهم في تسلّلهم إلى أوروبا، بل يعتبرذلك بداية انتشارهم بها قبل ظهور المسيح، الذي منذ بداية رسالته حاول اليهود صلبه، متّهمين في نفس الوقت الرّومان بالجريمة،وهو الذي قد صُلب فعلا في العقيدة المسيحيّة، بل أنّ اليهود جذّروا بالعقيدة المسيحيّة موته وبعثه في آن واحد،وكلّ تلك الأحداث والوقائع دارت في أطوار مختلفة من تاريخ الإمبراطورية الرّومانية بالمنطقة العربيّة.

إذ يشير بالإضافة لذلك جلّ المؤّرخين، في هذا الصّدد، أنّ اليونان يمثّل بلا شكّ المحطّة الأولى التي انتقل إليها اليهود تدريجيا منذ700عاما ق.م،غير أنّ حلولهم بفلسطين حدث خلال فترات متتالية، وذلك بعد سبيهم من نبوخذ نصرالثاني الكلداني،ملك بابل في القرن السادس ق.م، والذي بدوره لم يسبهم بالقدس التي لم يصلوا إليها بعد،التي أسّهها العرب اليبوسييّن المنحدرين من قبيلة يبس العربية اليمنية، وإنّما انطلاقا من فلس أو- قَدَسْ- عاصمتهم التي أسّسها "الفلستنيون" وهجروها بعد تكبيد القبائل اليهوديّة هزيمة نكراء، المنتشرة آنذاك بجبال سراة. وللتذكير فإن فلس يمثّل صنما برحم امرأة كان يعبده "الفلستنيون" حسب المؤرّخ العراقي فاضل الرّبيعي، والذي حوّله اليهود إلى أورشليم العاصمة التّوراتيّة.

وهنا،ممّا لا بدّ التوقّف عنده، هو قدرة اليهود على الاندساس في الشّعوب والملل، التي يحطّون بها،وقد برهنوا على مرّ القرون يسْر تكيّفهم معها، حتّى أنهم استطاعوا في أغلب الأحيان الاندماج بدون الاندماج فيها فعليا، مقيمين بحارات، باختيار إرادتهم، على أطراف المدن، وتسييرها سياسيا واقتصاديا وتجاريا وماليا حسب مشاربهم ومصالحهم،وإلى ما يرسمونه من أهداف تخدم طموحاتهم الدّفينة.

ولمن يعتقد أن تشريد اليهود قد بدأ سنة 70 ق.م على يد الرّومان، فهو يفتقد لمعرفة جزء جوهري من تاريخهم، الذي ساهم في تحديد تنقّلهم عبر الجزيرة العربيّة،وهو منشأهم الأصليّ. فكمال الصّليبي وفاضل الرّبيعي وبهاء الأمير وعبد الله المسيري وغيرهم،كما تعرضنا له أعلاه،قد بيّنوا بوضوح تلك الحقبة الزّمنية الطّويلة، معتمدين في ذلك على علوم الآثار وعلوم المكان والأسماء، التي تحتوي عليها التّوراة ومقارعتها أيضا بعلوم القرآن، ولا خلاف إذا بين المؤرّخين في هويّة المكان-الزمان التي تقترن بتاريخ ظهوراليهود وجغرافية إقامتهم المندمجين بها قرونا متتالية.

تلك الحقائق تستدعي رفع كل التباس لفهم ما نحاول كشفه على أنّه ليس بالمرة تفنيدا لموطنهم الأصليّ كما أشار لذلك فاضل الرّبيعي وهو اليمن، وهو ما لا ينفيه في الأصل القرآن الحكيم فيما إذا تعلّق الأمر بانقراض قبائل بني إسرائيل العشر بل حتّى شتاتهم بأصقاع الأرض إثر وقائع وأحداث تاريخية غابرة، وما تبقّى من اليهود قد يعتبر في الحقيقة سليل قبيلتيْ يهودا وبنيمين.

وقد بيّن القرآن الكريم أيضا في سورة القارعة وغيرها من السور ما آل إليه اليهود الكافرين،بعد نقضهم العهودالمتتالية ونشرهم الإفساد في الأرض، الذي دأبوا على تأصيله في الرّبوع اليمنية والجزيرة العربيّة بصفة عامّة،إذ أبلغ الله عزّ جلاله الإنسانيّة،بعد كلّ ما عمّ الأرض من فجور وبغاء،سحقهم، وما آثار صدوم وعامورة الممتدّة بين جبال سراة ووادي حضرموت إلاّ خير دليل على ما يعيده التّاريخ من ذلك التمرّد العنيد. بحيث أنّ انتشار أشتات اليهود في أنحاء المعمورة جاء كأمر قاطع بحكم الله الحكيم العزيز، الذي ساهمت في التّأسيس له أحداث ووقائع تاريخية قاطعة. ووعْد الله في هذا الشأن قول فصل لا يمكن محوه رغم تحريفهم التّوراة والإنجيل والزبور والتّلمود، وكلّها كتب تلعنهم، بخلق سرديات زائفة تجعل من اليهود "شعب الله المختار"، الذي بوعد الله،حسب سرديتهم سيعودون إلى أرض الميعاد التي لا توجد إلا في مخيال زائف لا يمتّ تاريخيا بالحقيقة. والحقيقة أيضا أنّ اليهود اللّذين نجوْا من الزّلزال الساحق (القارعة) حسب المؤّرخين العرب هم في الأصل بقايا يهود وقبائل عربيّة اعتنقت اليهوديّة كبني قريظة وبني قينقاع وبني النضير وغيرهم من القبائل العربيّة التي تهودت. وممّالا ريب فيه أيضا فإن هناك قبائل يهوديّة اعتنقت الإسلام بحلول الرّسالة المحمّدية كقبيلة شكره وعكاشة وسلام وغيرها (انظر القائمة الكاملة في آخر كتاب كمال الصليبي: التوراة جاءت من الجزيرة العربيّة). وهنا لا بدّ من الحفر في التاريخ الإسلاميّ لتحديد مسؤولية اليهود المندسّين في الإسلام ومدى خطورة نشاطهم في تخريبه وشيطنته والتّصدّي له بتأثيرهم على دواليب الحكم المركزيّ للدّول العربيّة والإسلاميّة وتشبيكه بمصالح الاستعمار الغاشم، وهو ما أبّد عمق التّخلّف والاستبداد والقهر والانحطاط.

طبعا، طرْحنا للمسألة هنا لا يعارض ولا يزعم نسف مبدأ النّسبيّة، وهو بعيد كلّ البعد عن التّعميم، الذي لا يستثني القبائل أو الأفراد اليهودية اللذين اعتنقوا الدّيانة الإسلاميّة.

فكيف تمكّن اليهود بعد هذه المسارات المتشعّبةالمعقّدة من الانتشار في أوروبا؟

التشّكل الاجتماعي اليهوديّ-الرّومانيّ

وكما بيّناه سلفا، فإنّ بداية انتشار اليهود في أوروبا قد لعب الرّومان في تغلغله دورا جوهريا. إذ منذ اختلاطهم بالرّومان المهيمنين آنذاك على الشرق الأوسط والجزيرة العربيّة وشمال إفريقيا،كباقي أجزاء هامّة من القارّتين الأوروبّية والآسيوية،فقد تيسّر لهم التّعايش معهم،وحتّى مساعدتهم إداريا وعسكريا في إدارة المناطق الجغرافيّة التّابعةللإمبراطوريّة الرّومانية. ومن المؤكّد في هذا الصّددأنّهم بعد الثّورة، التي قادوها ضدّ الرّومان سنة 70 ق. م.،والتي ينقضها مؤرّخون كثر فيما يتعلّق بحقائقها، قد اندمجوا في النّسيج الاجتماعي الرّومانيّ بصفة نهائيّة. وأنّ الأهمّ هنا الذي يجدر التّركيز عليه هو لا فقط البحث عن تحديد ذلك الانتشار ومدى اختلاطهم بالرّومان،بل أيضا كيفية استقرارهم بالإمبراطوريّة الرّومانية الغربيّة والإمبراطوريّة الرّومانية الجرمانية المقدّسة. بحيث لا يمكن الحديث عن أشتات اليهود بأوروبا وآسيا وأفريقيا والولايات المتحدة دون الأخذ في الاعتبار هذا التحوّل الجغرافيّ لليهود المؤسّس لاكتساحهم جغرافيات جديدة وخاصّة منهاأوروبا والولايات المتّحدة اللّتين تشغلنا في هذا المقال بصفة خاصّة.

وحتى لا يكون هذا العمل مبتورا من مصادر هامّةأخرى،يتوجّب علينا الإشارة إلى تمازج اليهود بالقبائل السّلتية، التي بدأت تتنقّل قبل استقرارها بأوروبا الغربيّة منذ القرن 8 ق. م.،وذلك من سهاب أوروبا الوسطى، مترحّلة،كباقي القبائل الهنديّة-الأوروبّية، إلى جرمانيا وشمال فرنسا وبلجيكا وإيرلندا وبلاد الغال وبريطانيا الفرنسية وإسبانيا وغيرها من أماكن أخرى. وأنّ اليهود الخزر حسب مؤرّخين غربيين قد أشارواإلى هذه الحقيقة التّاريخيّة التي يمكن من خلالها تبيان تواجد اليهود مبكّرا بأوروبا، وحتّى قبل دخول المسيحيّة إلى روما في بداية نّصف القرن الأوّل.

ومن ناحية أخرى، وفي نفس السياق، يبدو أنّ اليهود قد انتشروا أيضا بالقوقاز الأعلى حيث اختلطوا بالخزر وشاركوهم في الحكم وتصاهروا معهم، وتمكّنوا معهم من إنشاء امبراطوريةخزرية شنّت حروبا واسعة ضدّ الفرس والمسلمين والرّوس، اللّذين هزموهم في آخر المطاف سنة 969 م.، وهي امبراطوريةقد استولت على مناطق شاسعة تمتدّ إلى كييف الروسيةاليهودية والهند والصّين والبلدان الإسكندنافية. فاليهود الخزر هم خزر رحّل من أصول تركيّة، اعتنقوا اليهودية بين 740 و800 م.، حيث أنّهم قد نجحوا في تأسيس دولة عاصمتها إيتيل،ثم تفليس (انظر فلس بجبل فلس اليمني) التي اعتلى سدّتها الملك بنيامين (بن يمين)، الذي مُنّ بهزيمةتاريخيّة ضدّ تشكّل تحالف روسي-تركي-فارسي، ثم خلَفه ابنه هارون في القرن التاسع ميلادي، وهي ما سمّاها الرّوائي الإنجليزي أرتير كستلير "القبيلة الثّالثة عشرة"التي تحمل عنوان روايته الصّادرة سنة 1976 التي أحدثت ضجّة في الأوساط الأوروبية.فأوروبا الشّرقية عمّرها اليهود الخزرإلى حدود سيبيريا ومازالوا يعمّرونها نسبيا، وقد وصلوا أيضاإلى شمال أفريقيا(أنظر تاريخ اليهود بجربة) وإسبانيا واستقرّوا بها. وأنّ هذا العنصر رغم أهمّيته قد لا يفي بكلّ ما يدور من حقائق حول اختلاط الأتراك باليهود الخزر وأهمّية حسم موقفهم من الإبادة الجماعيّة التي يتعرّض لها الشّعب الفلسطيني منذ طوفان الأقصى.

وعلى مستوى آخر، فإنّ بعض الجيوش العربيّة راهنت على ضمّ المكوّن البشري الخزري-الشركسي في تشكيلاتها "للجيوش الوطنيّة" نتيجة ما اشتهر به العسكر الشّركسيّ تاريخيا من شدّة بأس وقوّة. فما يطلق عليه باليهود الأشكناز واليهود السفاريد على صعيد مختلف،فكلاهما سليلي اليهود الخزر بنسبة عالية من الجينوم الوراثيّ رغم كلّ الجدل الدائر داخل الكيان الصّهيوني وخارجه، غير أنّ هذا التقسيم لايعني سوى أنّه يشير إلى تقسيم جغرافي مختلف حيث احتشد اليهود رغم أصولهم الإثنيّة المشتركة.

نشوء رأس الحربة اليهودية-المسيحية

فالمتمعّن في تاريخ اليهوديّة-المسيحيّة يلحظ من الوهلة الأولى أنّ هذا النّشوء الإثني-الدّيني قد ترعرع في صراع دمويّ صلب القبائل اليهودية ذاتها. لطالما أن المسيحيّة جاءت بتبشير عيسى عليه السّلام إلى هداية المشركين من اليهود بني قومه الباغين في الأرض. غير أنّ ّ الرّسالة قد فشلت كما بيّنا آنفا بإقدام عبّاد "عجل الذّهب"على اغتيال وصلب المسيح، وهو ما يتعارض جذريا مع ماجاء به القرآن، حيث عليه أنّ المسيح قد رُفع إلى السماء قبل صلبه، لكن المسيحيّة،خلافا لذلك،تعتبر أن المسيح قد قُتل فعلا وبُعث من جديدحين صلْبه، وهو ما أكّده الحواريون اللّذين يعتقد البعض منهم أنّ المسيح قد تجلّى لهم حيّا،وهو الذي خاطبهم كما يزعمون ومازال يواصل منذ ذلك الحين رسالته التّبشيرية من أجل خلاص الإنسانيّةمن الذّنب. ولكن بالنّسبة للإسلام يُعتبر ذلك الاعتقاد اختلافا دينيا عميقا إن قارنّاه بوعد الله القائل بأنّه قد أنقذ المسيح من الاغتيال والصّلب ورفعه، وأجّل بعثه إلى حين غير معروف ولامحدّد. ولا شكّ أنّ ذلك سيحدث حتماحينما يشتدّالبغي والقهر والظّلم والفساد ويظهر المسيح الدّجّال في الأرض كما ذلك يتجلّى تصاعديا في عصر الدّجل والظّلم هذا، الذي تواجهه الإنسانيّة المستضعفة.

فما يمكن إبرازه في نفس الإطار هو أنّ المسيح يهوديّ العرق كما الإثنا عشرة حواريين، والعدد يذكّر طبعا بالقبائل اليهوديّة، اللّذين واصلوا رسالته التّبشيرية تحت سلطة الرّومان ومشاركتهم الحثيثة فيما بعد ليس فقط الاعتراف بالمسيحيّة كدين للدّولة بل أيضا دستورا لها، وهو ما مكّن الإمبراطوريّة من تبنّي شعار "الامبراطوريّة الرّومانية المقدّسة"، الذي تحوّل فيما بعد إلى إصدار بيان الإمبراطور الرّوماني كركلّة سنة 212، الذي يسمح لليهود وغيرهم من الملل بالمواطنة في الإمبراطوريّة، والذّي تلاه بيان ميلانو سنة 313 والاعتراف بالمسيحيّة كدين شرعيّ، ثمّ عقبه إصدار بيان تسّولونيك (اليونان) في 380 يعترف بالمسيحيّة كدين للإمبراطوريّة حيث يقيم أهمّ تحشّدات اليهود وأقدمها.

لسنا هنا نبحث عن أطوار المسيحيّة وانتشارها في طورها التأسيسي فقط، وإنّما من خلال ما نكشفه من تاريخها، نريد أن نبرهن أيضا بأنّ المسيحيّة سواء كانت بقطبها البروتستانتي والأرثوذكسي أو بقطبها الإنجيلي والأنغليكاني، فاليهودية قد نسجت بخيوط من ذهب تشكّلات المجتمعات الغربيّة الدّينية بكلّ أبعادهاالعسكريّة والثّقافية والاقتصاديّة والماليّة والحضاريّة. وأنّ حتّى إنشاء الفاتيكان سنة 754يعتبر نتاج الفعل التّبشيري بتأثيره الإثني الشرقي-الآسيوي اليهودي، الذي تجسّد باعتلاء سبعة بابوات الفاتيكان وباستشهاد الأبرشيْ بيار وبول الحوارييْن مؤسّسيْ أبرشية روما سنة 53بعد الميلاد، وكلّ الحواريين ينحدرون من أصول يهوديّة من صلب تاريخ المسيحيّة الرّومانية. علما أنّ ذلك الزخم اليهوديّ-المسيحيّ وُلد وكبر في أحضان الحواريين الإثنا عشرة وخارجهم.

ولكن مايتوجّب معرفته أيضا، في هكذا النّسق التّاريخيّ، هو أنّ اليهود إثر اعتلاء كلوفيس الفرنكي الميروفنجي عرش فرنسا سنة481، واعتناقه الدّين الجديد، بعد تعميده بكتدرائيّة رانس، جعل من فرنسا"البنت البكرللمسيحيّة" وآلية صلبة للتّبشير والدّفاع عن المسيحية. وبحلول القرن السّادس من الرّبع الأوّل، أسسّ المعتنقون من الفرنكيين المسيحيّة،دير صهيون في القدس، الذي يُعتبر أوّل مؤسّسة مسيحيّة-صهيونيّة "إيديولوجية"هدفها إعادة بناء الهيكل المزعوم. والملفت أنّ اختيار القدس لإنشاء ذلك الدّير كان هدفه الاستيلاء على فلسطين، وهو الذي يمثّل النّواة الأولى التي ستفضي فيما بعد، في خضمّ الحروب الصّليبيّة التي نادى إليها البابا اليهودي إربان الثّاني،إلى تأسيس منظّمة فرسان الهيكل، الذي باتّفاق جلّ المؤرخين قد لعبت كمنظمة صهيونيّة، بداية من الربع الأوّل للقرن السّادس، من خلال الدّير المشار إليه سلفا، دورا محوريا في تأسيس الملكية الفرنسية، بل إعادة هيكلة الأرستقراطيّة الرّومانية أيضا بدمج القبائل البربرية الألَمانيّة الجرمانيّة والخزرية والمخجرية والسّلتية القادمة من أوروبا الوسطى وآسيا الوسطى صلبها، والتي حكمت فرنسا حتّى الثّورة الفرنسيّة سنة 1789بانحدارات سلاليّة مختلفة، لكنّها من صلب نفس العرق اليهودي. كما أنّ الثّورة الفرنسيّة تبدو وكأنّها مآمرة ماسونية انتقامية ضدّ الملكيّة الّتي أتت عليها فداءً لأستاذها الأعظم جاك دي مولاي. فمثلا الجكوبيين اللذين يمثلون روّاد التّمرّد الثّوريّ ينتمون للماسونية الصّهيونية.

علما وللتّوضيح فأنّ كلمة "صهيون" تشير لجبل يمني تقيم به قبيلة عربية قديمة مازال منحدريها من مسيحيّين ومسلمين يعيشون ببيروت وغيرها من البلدان العربيّة. غير أن اليهود الصّهاينة انتحلوا النّسب القبلي العربي،لطالما أنّه يدلّ بالبنى الذّهنية اليهودية على الجنّة،وهي إسرائيل المتخيّلة التي أشار إليها فاضل الرّبيعي في كتابه الحامل نفس العنوان. إذ بات من الواضح أنّ المشروع الصّهيونيّ، خلافا لما يعتقد البعض لم ينشأ إيديولوجيا على يد هرتزل سليل قبائل الخبار الخزرية الأصل المتجذّرة بالمجرّ،وإنّما كما سنحاول توضيحه لاحقا فإنّ "إسرائيل المتخيّلة" ليست نتاج تصوّر عابر أو هامشي،بل هي في حقيقة الأمر وليدة هندسة مخيال غربي استعماري مركزي تجسّد في مرحلة تاريخيّة بدأ الاستعمار الأوروبّي يشرف على تقوقعه و نهاية. وأنّ إسرائيل،بقطع النّظر عن مساهمة المحرقة النازية لليهود في منح وطن لليهود غير وطنهم، قد أُنشئت بحافز استعماري قصد مواصلة الاستثمار في التّفوّق العرقيّ والتّكنولوجيّ الأبيض،وما يدرّه من أرباح اقتصادية طائلة للغرب من نهب للثّروات العربيّة مقابل شبه إنهاء اضطهاد كبش الفداء اليهوديّ والتّمويه على عداوة السّامية على الأقلّ ظرفيا بأوروبا. وللتّذكير، وهو امتداد ما نحاول توضيحه، فإنّ أوروبا المسيحيّة، بعد طرد العرب من الأندلس سنة 1492،قرّرت قطع كلّ العلاقات مع العالم العربي والإسلامي ولم تستأنفها إلاّ من خلال حملاتها الاستعماريّة باحتلاله وتقسيمه إلى دويلات سيكس-بيكو، وذلك بعد قرون من تحويل طرق التّجارة من الصّحراء إلى البحار والمحيطات التي أغدقت على أوروبا الفضّة والذّهب كما لم تره من قبل في تاريخها.

وفي خضمّ الحملات الاستعماريّة وبداية انكسارها، برزت أهمّية الأيديولوجية الصّهيونية التي بنشأتها الجرمانية اليهوديّة النمساوية، في سياق الامبراطوريّة النمساويّة-المجرّية،راهنت على انخراط دولي شامل يخدم مصالحها، وكلّ ذلك بجعل الرّمزية المركزيّة العنصريّة الغربيّة مشروع استيطان لم تتأخّرفي دعمه المنظّمات الدّوليّة التي يجب فهم تكوينها على أنّها سليلة القوى الاستعمارّية بهويّتها القبلائية اليهودية التي انكبّت من الوهلة الأولى على دعم الكيان الصهيونيّ في منحه وطن الشّعب الفلسطينيّ الأصل، ذلك الكيان الغاصب الذي لا يعبأ بأيّ قرار أمميّ أو إدانة عمليّة من المنظّمات الدّوليّة. والسّبب في ذلك كلّه أنّ التعنّت الصّهيونيّ الأسطوريّ المرتبط بدلالاته الاستعماريّة يعتبر نفسه الأفضل إثنيا بشحنته اليهوديةّ كما تصدح إيّاه سورة البقرة،ممّا يستبطنه من غرور على أنّه فوق المنّظّمات الدّولية رغم أنّها نشأت من رحم أفكاره وخرافاته وأساطيره.

فما يمكن قوله أنّ المسيحيّة،كشريعة أبراهيمية، قد ولدت من صميم الشّريعة اليهوديّة بجينات يهودية، وذلك بداية من تدميرالهيكل الذي أقامه سليمان ورمّمه داوُود بأورشليم اليمنية وليس بالقدس كما يزعم اللاّهوتيون الإستشراقيون الصّهيونيون،إذ يبدو أنّه قد تمّ تصديرالمسيحيّة كما بيّناه أعلاه، وواصلت الامبراطورية الرّومانيةالمقدّسة الدّعوة والتّبشير المسيحييْن،بازدواجية جناحيها اللّذين تديرهما كلّ منتَرَاسْ اليونانية من ناحية، والقسطنطينية التّركية الأرثودوكسية بالشّرق من ناحية أخرى.غير أنّ الحقيقة التّاريخيّة الصّلبة تنفي وجود أيّ هيكل ثان أعلاه داوود بالقدس. وكلّ ما يروّج له الصّهاينة بوسائل دعائيّة مختلفة حول تهديم الهيكل الثّاني بالقدس ينبع من توظيف تاريخ مزيّف استعماري بحت لا صلة له بالتّأريخ الحقيقيّ لليهود اللّذين هم في منأى عن الاستعمار ومكائده ويرفضون وجود الدّولة الصّهيونيّة.

فما هي الآليات والعوامل البرغماتية التي ساهمت في نشر المسيحيّة بمكوّنها اليهوديّ بأوروبا؟

المثير للملاحظة في هذه النّقطة بالذّات هو أنّ هجرة اليهود مبكّرا إلى روما وضفاف البحر المتوسّط حيث كانوا يتعاطون التجارة مع الشرق قد ساهمت في استقرارهم والتغلغل في المجتمع الإيطاليّ بعد ما تجذّروا باليونان منذ القرن السابع ق. م، ثمّ تدريجيا انتشروا ببقيّة الدّول الأوروبّية، بل أنشئوا على أطراف العاصمة الرّومانيّةحارة يهودية خاصّة بهم، والتي مازالت إلى اليوم تزخم بأنشطتها المختلفة. كما أنّ اليهود الرومانيّين قد لعبوا دورا ديناميكيا هامّا في تكريس المسيحيّة وتمدّدها، حيث تناسل المبشّرون وعمّوا أوروبا الغربية كلّها، مؤسّسين بدورهم كاتدرائيات وكنائس وأديرة دينيّة للعبادة والتّعريف بالمسيحيّة ونشرها على أوسع نطاق. والمثير للجدل فإنّ منظّمة الصّليب الورديّ التي ظهرت بالمملكة المتحدة التي أسسها فرنسيس بيكن،على غرار منظّمة فرسان الهيكل،قد تمكّنت من السّيطرةعلى المسيحيةالأنغليكانية ولعبت دورا بنيويا في بعث دور العبادة ونشر أفكارها بمشاركتها من خلال علماء الآثار في إسقاط التبونوميا اليمنية على فلسطين بصفة خاصّة. ويجدر القول بأن الماسّونية، في رأي الكثير من دارسيها، قد وُلدت من أنقاض منظّمة فرسان الهيكل، التي وُضع حدّ لنشاطها سنة 1308 بعد شنق مؤسّسهاأستاذها الأعظم جاك دي مولاي بإذن من ملك فرنسا فيليب الرابع لوبال والبابا بونيفاس الخامس إثر التفطّن لممارسة المنتمين إليها الموبقات والفجور واللّواط والفاحشة.

والملفت أنّ ما بين تكوين فرسان الهيكل سنة 1118 والقضاء على آخر أساتذتها العظام مرّ قرنان من الزمن استطاعت المنظّمة من خلالها تدمير المجتمعات الأوروبية بتجريدها من القوّة الرّوحيّة وحرمانها بذلك من ممارسة المسيحيّة الأصيلة، لكن ضخّت في نفس الوقت طاقة جديدة غيّرت هذه المجتمعات جذريا، وهي القوّة المجتثّة من جذورها الدّينيّة التي أفضت إلى مسار جديد قادها إلى عصر النهضة بدون الرّبّ الحقيقيّ الأصيل. وأنّ هذه التحوّلات العميقة في نسيج المجتمعات الأوروبية برز أكثر خلال الحملات الصّليبيّة التي لعب فيها اليهود دورا حاسما لا فقط في التحريض عليها وإنّما أيضا في التعتيم على غايتها الخفيّة ألا وهي إعادة بناء الهيكل المزعوم واحتلال فلسطين.

والأهمّ بمكان هو، بالتّوازي مع تأسيس الملكيّة الفرنسيّة، على يد الفرنك الجرمانيين اللّذين يُعتبرون إثنيا سليلي العرق الهندي-الأوروبي، والأرجح أنهم من أصول غزرية يهودية، كان الإسلام يكتسح في نفس الفترة الفضاء الآسيوي شرقا ويشتبك مع الخزر في حروب ضارية أشعلها اليهودمن جديد من داخل دولتهم القوقازية. علما أنّ تلك الحروب امتدّت من الدّولة الأمويّة إلى الدّولة العبّاسيّة دون انقطاع. ولصدّ الإسلام خوفا منه، اعتنق الخزر اليهوديّة والمسيحيّة احتماء بهما. وعليه يتوجّب القول بأنّ الإسلام قد واجه عداءً ومقاومة شرسة من أشتات اليهود المنتشرين في تلك الرّبوع اللّذين كانوا يُمثّلون آنذاك أدلاّء ملوك الخزر، اللّذين أصبحوا فيما بعد، نتيجة القوّة التّجاريّة والماليّة التي يديرونها بنجاعة فائقة، يقرّبونهم منهم ويستشيرونهم في شؤون إدارة الدّولة.

فانتشار قبائل الخزر المعتنقة لليهودية والمسيحيّة قد تمّ عبر القارّة الآسيويّة كلّها وإلى الدّول الإسكندنافيّة،كما شرقا تجدر الإشارة إلى تمدّدهم نحو الصّين والهند،ممّا جعل تلك الجغرافيا نسبيا أرضا يهوديّة جديدة سخّرها أشتات اليهود عبر التّاريخ لحماية مصالحهم بالاستقرار الدّائم داخل حدودها.

وقد رأينا من خلال طوفان الأقصى كيف استوطنت تلك الأشتات اليهوديّة الأرض الفلسطينية التي حوّلها الكيان الغاصب بجزء منها منذ تأسيسه إلى كيبوتسات صهيونيّة عالمية. وممّا لا ريب فيه فإنّ سياسة الكيان الصّهيوني تحوّلت إلى آلية دعائيّة لجلب يهود العالم إلى فلسطين المحتلّة قبل إفراغها من سكّانها الأصليين. كما أنّ العلاقات الدبلوماسيّة والتّجاريّة والعسكريّة الصّهيونية مع تلك الدّول الآسيوية وخاصّة منها التي كانت تابعة لنفوذ الدّولة اليهوديّة الخزرية القوقازية مازالت متوغّلة في عمق الحاضر بتصدير السّلاح والذّخيرة والعتاد إليها بأعلى مستوياته، ممّا خوّل للكيان الصّهيونيّ جني أرباح طائلة. وأنّ اختراق الفضاء اليهودي الآسيوي القديم من الكيان الصّهيونيّ الاستعماري لم يعد سرّا لمتابعي الجغراسياسية الاستراتيجية لتلك المنطقة بالنّسبة لإسرائيل بل إنّه واقع ملموس مسكوت عنه لأسباب سرّية خطيرة محمية مباشرة من الإمبراطورية الامبريالية الأمريكية التي بدورها، من خلال اليهود الخزر والمجغر الآسيويين، مازالت تعمّق علاقاتها مع تلك الدّول الجديدة التي نشأت بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي وساهمت في التّأسيس لها. وما الحرب على أوكرانيا الرّوسيّة اليهوديّة إلاّ دليلا قاطعا على التّاريخ اليهوديّ المتشابك بأصول الأمم الغربية وتأثيره المباشر على واقع الجغرافيات الإنسانية.

فالقبائل الأوروبّية التي تعدّ بأكثر من سبعين قبيلة(أنظر كتاب القبائل الأوروبّية بالفرنسية) التي جابت أوروبا من الشّرق إلى الغرب كلّها تنحدر من السّهوب الآسيويّة ومن سيبيريا التي أقام بها اليهود منذ انشقاقهم عن الرّومان كما أشرنا إليه سلفا. إذ جلّها قد حكمت في فترة من فترات تاريخ أوروبا جزءً منها ودافعت عن مصالحها داخلها.

والأهمّ في هذا الصدد هو أنّ جلّ الأرستقراطيّة الأوروبّية التي تنحدر منها "الغوطة" الأوروبيّة تعتبر سليلة تلك القبائل، وبالأخص قبائل الخزر والمجغر التي تهوّدت وتمسّحت كما الرّومان،بحيث لا يمكن إخفاء حقيقة ما إذا كانت سليلة اليهود.

ولكن السؤال الذي وجب تناوله أليس يتعلّق بحقيقة بني إسرائيل؟ أهُمْ رعاة الغنم اللّذين يحشرهم المؤرخون في أسباط بني إسرائيل بقبائلها العشر أو سبطيْ يهودا وبنيمين الأحبار الحميريين المتحالفين ضدّ بني إسرائيل رعاة الغنم النّجس السبئيين؟ (أنظر التوراة).

فلربّما جلّ ملوك أوروبا ونبلاها قد لا يجهلون أصولهم اليهودية، وهم اللذين لا يعرفون انحدارهم الحقيقيّ إلا بجزء منه خاصّة فيما يتعلّق بعلاقتهم بامتزاج "نبْل الخدمات" الرّومانيّ بالنّبْل الفرنكيّ الميروفنجيّ بأصوله اليهودية الإغريقيةفي القرون الوسطى.

والأهمّ بهذا المحور من النّبش في التّاريخ هو أن ملوك أوروبا بانتمائهم للمسيحيّة بكلّ أقطابها المذهبيّة قد تربطهم اثنيا وروحيا علاقة طبيعيّة باليهود. غير أنّ السّؤال هنا لا ينظر للملوك الأوروبيّين بأنهم يدعمون الصّهيونية مادامت لم تكن لدينا وثائق حديثة جدّية تفيد بذلك، رغم أنّ جلّ أجداد الملوك المؤسسين للملكيّة قد انخرطوا تاريخيا في الحملات الصّليبيّة،وحتّى البعض منهم كالفرنسي لويس التّاسع والألماني فريديريك بربروسوالفرنسي فيليب أوقيست والإنجليزي ريشار كير دي ليون،جميعهم قد قادوهابأنفسهم بحماس وتضحية والتي،حسب بعض المؤرّخين، دبّر لها اليهود المندسّون في المسيحيّة، وعلى رأسها البابا إربان الثّاني وغيره من البابوات. ويبقى السّؤال مطروحا إذ يمكن القول بأنّ تأثير الملوك والأسر الملكيّة الأوروبّية بصفة عامّة على السّياسات الأوروبية ليست من صنع الخيال.

فاليهود الرّومانيين كما اليهود الإغريقيّين استطاعوا، بقوّتهم الماليّة وامتلاك أراض شاسعة، الانتماء للأرستقراطية والنّبْل معا وصاروا يديرون جانبا هامّا من الإدارة الرّومانية،لا سيّما أنّهم قد لعِبوا دورا عميقا في تجذير المسيحيّة. وهنا يمكن التساؤل فيما إذا كان دور اليهودفي زجّ الرّومان في الحروب البونيقيّة وحرق قرطاج لا يقبل النّفي؟ ذلك ربّما ما يمكن استنتاجه من صفحات التّاريخ القديم ومدى علاقته بأسباب الانتقام التي تزخر إيّاها السّجلاّت التّاريخيّة حينما كانت تدار الملكية الفينيقية بصيدا في سياق الحروب ضدّ الرّومان واليهود ببلاد الشّام. إذ أنّ تلك الفترة تتّسم بانصهار اليهود في المجتمعات الرّومانيّة ومشاركتهم في إدارة شؤون الإمبراطورية.

وعلى صعيد آخر، وفي نفس السّياق،فالأسرة الميرفنجية الفرنسيّة أسّست الملكية الفرنسيّة، وهي من أصول يهودية إغريقية تصاهرت مع الأسرة الجرمانية الهبسبورقية، وكلاهما يصنّفان كقبائل جرمانية تنحدر من القبائل الهنديّة الأوروبية كالقبائل الخزرية والألَمانيّة،أو بالأحرى من قبيلة بنيمين الخزرية اليهودية، إن سمح هكذا الاستنتاج بعمق أصوله الإثنية عبر اعتناق المسيحية.

وقد أشار المؤرخون الدّارسون لأصول القبائل الأوروبّية بأنّ الأسرة الملكيّة البريطانيّة بتصاهرها مع أسرة الهبسبورق قد تشترك عرقيا مع باقي ملوك أوروبا في الأصول اليهودية. علما أنّ ملوك المملكة المتّحدة مازالوا يتّبعون طقوس اليهودية وعاداتها وأعيادها الدّينية ويمارسون الختان للذّكور،إذ يرجّح بعض المؤرّخين أنّهم قد ينحدرون من أصول يهودية ضاربة في القرون الوسطى وحتّى آدم، وعلى سبيل المثال فإن كاتدرائية وسْمنْستير بلندن حيث يُنصّب الملوك وملكات الأسرة الملكية البريطانية ويدفنون تحوي على النّسخة الوحيدة من التّلمود البابلي،الذي حرّره اليهود خلال سبيهم البابلي. ولكن هل خلف هذا الخيار الطقوسي-العقائدي تفسير مقنع لاختيار إنجيل كورنت الأكثر تحريفا بالنسبة للأناجيل الأخرى ككتاب مقدس للأنغليكانية؟ وهل أنّ سماكة الإرث اليهودي بالمملكة المتّحدة وحتّى بقلب الملكية له علاقة بمسؤولية الانتداب البريطاني ووعد بلفور في توطين اليهود بفلسطين على حساب الشعب الفلسطيني ومواصلة دعم وجوده بكلّ الوسائل والآليات المتاحة؟

فإلى أيّ مدى يمكن القول إجماليا بأن الدّم اليهوديّ الهجين يتدفق بأصول ملوك أوروبا؟

فعندما ينعت بنيمين نتنياهو، الذي هو نفسه سليل الخزر اليهود البولنديين، الشّعب الفلسطيني "بالمخرّب" فهو يستعمل مصطلحا توراتيا محرّفا في الأصل ولا علاقة له بالفلسطينيين، إذ أنّ التّوراة تعرّف في الحقيقة "الفلستينيين" (الفلاشة) في سياق صراع تاريخي قديم بين قبائل يهوديّة وفلستينيين بأنهم "آكلي السّحت" بينما لا تربطهم علاقة من قريب أو بعيد بالتّخريب ولا بشعب مخرّب. وإنّما الهدف من ذلك هو كما يكرّره وزير الكيان الصهيوني الأوّل وبعض قادة الاتحاد الأوروبي بأنّهم يدافعون عن الحضارة المشتركة بينهم ضدّالهمج. وهو ما يؤسس بذلك وبصريح العبارة للصّهيونية الدّينيّة العنصريّة التي يسعى الكيان الصّهيوني وحلفاءه إلى إرسائها في أرض غير أرضه يعمّرها شعب منذ آلاف السّنين وهي أرضه على امتداد التّاريخ القديم إلى تأسيس دولة إسرائيل الغاصبة.

ليس من السّهل حسم مسألة معقّدة بهذا الحجم في سياق تاريخ جزء منه يبقى إلى اليوم مبهما، إذ بينما الفتوحات الإسلاميّة العبّاسية تكتسح آسيا حيث تصطدم بالدّولة اليهوديّة الخزرية، يتمدّد حكم الفرنك الجرمانيين في فرنسا نحو الوسط والجنوب بعد توحيد القبائل البربرية معها وتمكين شارل مرتل القائد الحربي من التّصاهر معها قصد طرد المسلمين من جنوب فرنساإلى الأندلس سنة 732م، وهو ما حصل ببويتي فعليا وحلّت محلّه إمارة يهودية بمدينة نرْبونْ لأوّل مرّة في تاريخ فرنسا التي مازلت تحمل منذ ذلك الحين في المخيال اليهودي الغربي اسم أورشليم أو القدس المختطفة بمعالمها المقدّسة.

فعلاقة اليهود بالشّعوب الغربيّةتمتدّ جذورها إلى أعماق التّاريخ الغربيّ وقد تكوّنت علاقات على مرّ الزّمان بين الطّرفين اختلطت بها الإثنيات المتشعّبة لتلد من خلال اليهوديّة-المسيحيّة كحضارة تشابك المصالح والغايات الاستعمارية الخبيثة المشتركة، رغم كلّ الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود عبر التّاريخ من تلك الشّعوب.

ومن الأهمّ بمكان أن يستنتج علماء البيولوجيا اليهود أنفسهم بأنّ جينوم يهود أوروبا كشبه يهود إسرائيل، يعتبر موزاييكا من الشّعوب القديمة التي اختلطت بالخزر المتهوّدين واليهود الإغريقيين-الرّومانيين ويهود الرّافدين وفلسطين. وهو ما يطلق عليه،رغم عدم تجانسه كرونولوجيا، عالم اللّغة إرناست رونان في تعريفه بالأمّة الفرنسية التي حاول الاستعمار الفرنسي استلهامه في تشكيل المجتمع الهجين المتدفّق بجزء منه من خليط قبائل أوروبية وأقلّيات وافدة من مستعمرات ما وراء البحار. وقد لا يستبعد أن أرنست رونان المنبهر باليهوديّة كان يدرك حقيقة تركيبة اليهود الجينيّة في القرن التّاسع عشر بعد سفره إلى فلسطين ومعاينته للواقع الإثنيّ، مرورا باليونان وأطلاله.

وكما حاولنا رسم بعض معالم مصير اليهود والغرب بأنّه مصير واحد في بنيته الإثنية والدّينيّة والفكرية والثّقافيّة والمالية والاستعماريّة، فإنّ الشّعب الفلسطيني المقاوم لاسترجاع وطنه المسلوب لن يتوقّف إلا بزوال المحتلّ الصّهيونيّ الغاصب وهو ما يدركه جيّدا هذا الأخير ومسانديه الغربيين.

ثلاثة أسئلة جوهرية ألا وهي اليهود والولايات المتّحدة الأمريكيّة، ودور الدّول العربيّة في استمراريّة الصّهاينة احتلال فلسطين، ومدى تأثير اليهود في الثّقافة الغربيّة، سنتعرّض لها في ثلاث مقالات مستقلّة مختلفة أثرناها في بداية هذه الورقة وهي لا تقلّ أهمّية عمّا حاولنا تبيانه سلفا.

وبعلاقة ما سبق، يمكن التّذكير بما كتبه الكاتب الفرنسي المعاصر فردينان سيلين للكاتب الفرنسيّ هنري بولاس في رسالة بحوزتنا غير منشورة وغير مؤرّخة بدقّة سنة 1936والتي ستحظى بترجمة ودراسة وافية قريبا " أنّ انعتاق المسيحيين لن يتحقّق إلا بتهويدهم وقد تمّ فعلا ذلك ".

يتّبع

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات