اعتاد أبو مظلوم، وهو فلّاح يمتلك مزرعة توارثتها عائلته عن أجداده على مدى أجيال، أن يصحوَ باكراً ليتابع أمور مزرعته وما تحتويه من مزروعات وأشجار مثمرة وبعضِ الدواجن والمواشي التي يعيش على منتوجاتها التي تكفيه لتربية أسرته بأمن وسلام وكرامة من دون أن يحتاج إلى أحد.ذات صباح، خرج أبو مظلوم إلى مزرعته، ليقطف ما نضج من ثمار، ويروي المزروعات، ويضع كعادته العلف والماء لطيوره ومواشيه... فوجد آثارَ عبث وتخريب ونهب لمزروعاته وأشجاره المثمرة، وبُقعَ دم في قفص الدجاج وريشاً متبعثراً في كل صوب داخل القفص وحوله.
بدأ هذا المشهد التخريبي في مزرعة أبي مظلوم يتكرر ويكبر يوماً بعد يوم، ليبلغ حد افتراس الخنزير طفلَ أبي مظلوم الرضيع في مهده؛ فبدأت حياة الفلاح وأسرته في المزرعة تفقد الأمان والاطمئنان والقدرة على البقاء في أرض الأجداد؛ فاستمرار عمليات التخريب والافتراس والاعتداء المتصاعد على هذا المنوال سيدمر كل شيء في المزرعة ويدفع أبا مظلوم إلى النزوح عن أرضه نحو المجهول.
بين الهرب إلى المجهول الذي لا يخلو من فقدان الأرض، ومن الخوف والذل وربما الجوع، وبين البقاء في المزرعة والعيش فيها بكرامة، قرر أبو مظلوم التشبّث بأرضه والدفاع عن مزرعته ومواجهة ذلك الخنزير البري المتوحش الذي يدمر كل شيء في المزرعة ويهدد حياة أبي مظلوم ومن تبقى من أسرته وأطفاله.
لجأ أبو مظلوم إلى جيرانه وأبناء أعمامه لكي يتعاونوا معاً على مواجهة الخنزير، فمنهم من لم يكترث، ومنهم من أبدى خوفه من المواجهة، ومنهم من كيّف نفسه وحياته مع غزوات الخنزير وجرائمه مرضِياً إيّاه ببعض العشب والثمار أو بعض الدواجن والمواشي النافقة، أو حتى الحيّة لديه؛ فقرر أبو مظلوم اقتناء السلاح لمواجهة ذلك الخنزير المتوحش.
وما إن حل المساء في أحد الأيام التوالي، ذخّر أبو مظلوم بندقيته بالخردق والبارود وسهر طوال الليل منتظراً غزوة الخنزير لمواجهته. ومع حلول الفجر سمع أبو مظلوم هدير ذلك الخنزير المتوحش وهو يعبث بمزروعاته ومحتويات مزرعته، فتصدى له مطلقاً النار عليه من بندقيته فأصابه، ولكن لم يُمِتْه.
المفاجئ لأبي مظلوم في عملية إطلاق النار هذه على الخنزير كان ذلك الصراخ والزعيق الصادر من ناحية الخنزير، ولكنه لم يكن خنخنة الخنزير نفسه. كان صراخاً أشبه بأزيز ذباب وفصيص بعوض وصرير خنافس وحشرات صغيرة. إنه صراخ ميمي وصريرها.
وميمي هذه فاسوقةٌ، أو قُرادة بالعربي الفصيح، كانت تعيش في مزرعة أبي مظلوم بأمان، وتتغذى على دماء مواشيه، ولكن أثناء إحدى غزوات الخنزير للمزرعة أغوى ميمي الانتقالُ إلى العيش على جسده، فدمه أكثر غزارة ودسامة نظراً إلى ما يلتهمه كل يوم من فرائس، وشعره أكثر سماكة وكثافة وهذا ما يوفر لميمي شعوراً بالأمان ووقاية أفضل من أوهام الاستهداف، فضلاً عما يتميَّز به الخنزير نفسه من قوة وجبروت تستمد ميمي منهما الشعورَ الوهميَ بقوة الذات وجبروتها.
وهكذا راح أبو مظلوم يكمن للخنزير طوال الليل، حتى في أحلك الليالي عتمة وأقساها برداً وأغزرها مطراً، للنيل منه والتحرر من غزواته ووحشيته. وكان كلما يطلق النار على الخنزير مصيباً إيّاه إصابات مؤلمة ولكنها غير قاتلة، نظراً إلى ضخامته وسماكة جلده وكثافة لحمه ودهنه، كان الصراخ يعلو من ميمي نفسها لا من الخنزير، كما لو أن أبا مظلوم يستهدفها هي لا هو؛ فالحياة على جسم الخنزير ذي الشعر الغليظ والكثيف، جعل ميمي تظن أنها تعيش وسط غابة من شجر البامبو الأسود التي تقيها البرد والريح وتحجب عنها أشعة الشمس الحارقة، وتنوُّعَ الطبيعة المحيطة بها وألوانَها، فباتت ميمي ترى أن عالمها ينتهي في حدود جسد الخنزير، الذي مهما جالت فيه ودارت عليه تعود إلى النقطة التي انطلقت منها.
وهكذا باتت الفاسوقة ميمي تعتقد أن مواجهة أبي مظلوم للخنزير المتوحش الذي يهاجم أرضه هو استهداف لها، رغم أن أبا مظلوم لا يراها أصلاً، لصغر حجمها ولاختبائها وسط شعر الخنزير وفي مطاوي جسده وتجاويفه وثُغُره. وهكذا، أمام هذا الرغد الذي تظن ميمي أنها عائشة فيه في دهاليز جلد الخنزير وغاباته وقذاراته وعلى مذاق دمه الدسم المشبّع بدماء فرائسه وضحاياه، باتت تظن أن الخنزير هو مصدر رزقها وحياتها، وأن أبا مظلوم هو عدوها الذي يسعى إلى قتلها، فرؤيتها لمصالحها وللحياة من حولها لم تعد تتخطى المسافة بين جلد الخنزير ورؤوس شعره. ولم تتردد الفاسوقة ميمي في إرسال ولديها سوسو ونونو إلى بيت أبي مظلوم لكي يلدَغَا أطفاله وهم نيام.
وهكذا، يبقى صراخ الفاسوقة ميمي وصريرها يعلوان كلما أطلق أبو مظلوم طلقة تجاه الخنزير دفاعاً عن أرضه وعرضه، غيرَ مدركةٍ أن طلقاتِ بندقيةِ أبي مظلوم لا بد من يأتي يومٌ تقتلُ فيه الخنزير، فتصبح الفاسوقة ميمي بلا مأوى.