اتّسم الصراع الفكري والنظري بعد الحرب العالمية الثانية بمفاضلة أولويتين: الأولى، حرّية الشعوب وتحرّرها من الاستعمار والهيمنة. والثانية، الحرّية الفردية.فالخيار هنا كان إلزامياً، بسبب مواصلة الغرب الضغط، لإعادة إنتاج الهيمنة. ما ضيّق على دول الاستقلال إلى أبعد الحدود. علماً أن الجمع بينهما كان الأفضل بالنسبة إلى دول الاستقلال. كان هذا الخيار المؤلم قد حُسِم في الغرب الاستعماري، في تفضيل أولوية الحرّية الفردية، والتي مثّلتها، وتشكّلت على أساسها، الأنظمة الرأسمالية الاستعمارية، ولا سيما في مرحلتها الثانية، عبر أنظمتها الديموقراطية وإعلائها لدور الفرد الرأسمالي إلى أبعد الحدود. ولم يكن يعاني، أو سيعاني، من هيمنة خارجية تفرض عليه التبعية، وإنما كان هو المهيمن. ولهذا، لم يكن ليختار بين الأولويتين. ولكنه، وفي الآن نفسه، جمع بين السيادة والهيمنة من جهة، وبين الحرّية الفردية الرأسمالية، من جهة أخرى، وأصبحا بالنسبة إليه شيئاً واحداً.
فالغرب ما كان ليقبل بمبدأ حرّية الشعوب، وقد تشكّل، منذ نشأته في مرحلته المعاصرة من القرن السادس عشر، على السيطرة العسكرية على خارجه أولاً. ومن هنا جعل هدفَه الدائم هو الهيمنة على العالم، المتمثّل في شعوب آسيا وأفريقيا، وأميركا اللاتينية وجزر المحيطات، وبعضها أصبح جزءاً من الغرب، مثل أستراليا ونيوزيلندا وجزر أخرى قامت كياناتها على سيطرة الرجل الأبيض الذي استوطنها وأخضع سكانها الأصليين بالمذابح والقوّة العسكرية السافرة، وقد طبعها بطابعه.
أولوية خيار حرّية الشعوب وبناء نظام عادل عالمياً أنتجت أنظمة متحرّرة، ولكن استبدادية، بسبب مواصلة استباحة الغرب المهيمن لها، واختراقه للديموقراطية وصندوق الاقتراع، كما اختراقه للحرّيات العامّة، عبر المنظمات غير الحكومية، أو ما يتولّد من تابعين فكرياً للغرب عبر سيطرته الثقافية والإعلامية والجامعية (جحافل المثقفين المستلبين والمتغربين)، وذلك عدا وسائل الحصار والعقوبات والخنق السياسي، طبعاً هذا يفسّر الجزء الرئيسي من الاستبداد، ولكن لا يبرّر ما جرى من مصادرة الأنظمة المتحرّرة لحرّيات فردية، حتى بلا مسوّغ أمني، أو سياسي، أو تآمري. وهو ما يحتاج بدوره إلى كفاح ومواجهة شجاعة، فلا يذهب إلى وضع الحَبّ في طاحونة الصهيونية أيضاً، وذلك بتخلّيه عن مبادئ حريّة الشعوب والعدالة الاجتماعية.
إذا كانت الأولوية، من حيث المبدأ، ومن حيث موازين القوى، ومن حيث شرط مناهضة الهيمنة وتحرير فلسطين (بالنسبة إلينا نحن الفلسطينيين والعرب والمسلمين)، يجب أن تُعطى لحرّية الشعوب وتحرّرها، ورفع الاستبداد الهيمني الغربي- الصهيوني عنها، فإنّ موضوع الحرّيات الفردية، بحاجة إلى أن يُفرد له حوارٌ خاص لاحقاً، في متابعة لهذا الموضوع. وتبقى ملحوظة أخيرة حول موضوعة الأولوية المتعلقة بحرّية الشعوب، وأساساً شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وهي تمكُّن بعضها من الإفلات، إلى حد كبير، من التبعية، وقد دخل منافساً اقتصادياً اليوم للغرب، مثلاً الصين والهند.
ذلك من حيث ضرورة تمتّع الشعب بالحرّية في اختيار حق تقرير مصيره، والذي يشكّل شرطاً لتأمين الشروط المادية والسياسية والفكرية للنهوض، بما في ذلك للسير في طريق العمل لتحقيق مبدأ الحريّة الفردية، وأولها كرامة الإنسان. وهو الشرط الذي يمكِّن من أن تصبح الحرّيات العامة قابلة للتطبيق إلى حدّ بعيد. الملحوظة التي يُراد التركيز عليها من ناحية أولوية حرّية الشعوب؛ أن الخيار بدا حتمياً بين الأولويتين. علماً أن الجمع بينهما، وتبنّيهما معاً، كان الأفضل، ولكن الغرب جعله شبه محال بالنسبة إلى الشعوب الأخرى. على أن هذا الخيار المؤلم قد حسم في الغرب الاستعماري في تفضيل أولوية الحرّيات الفردية، والتي مثلتها الأنظمة الرأسمالية الاستعمارية، ولا سيما في مرحلتها الثانية، عبر أنظمتها الديموقراطية وإعلائها للقِيَم الفردية. أمّا في المقابل، فقد رفض أن تكون ثمة أولوية أخرى، هي حرّية الشعوب، وحقها في تقرير مصيرها وخياراتها. فالغرب ما كان ليقبل بمبدأ حرّية الشعوب أصلاً، أو يأتي على ذكرها. بل راح يصنع المستحيل لفرض الهيمنة (هيمنة الغرب) على العالم المتمثّل بشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وجزر المحيطات، عدا أستراليا ونيوزيلندا، وجزر أخرى قامت أنظمتها على سيطرة الرجل الأبيض الذي استوطنها وأخضعها بعد مذابح لسكانها الأصليين.
وفي المناسبة، الحالة الوحيدة التي أيّد فيها الغرب حرّية شعوب المستعمرات، كانت أميركا وهي تسعى إلى السيطرة على مستعمرات بريطانيا وفرنسا، ودول أوروبية أخرى. ثم انتهى الحديث عندما استتبت زعامة الغرب لأميركا.
وبهذا استمر انقسام العالم حتى اليوم إلى صراع بين أولويتين؛ أولوية الحرّيات الفردية التي لم يكن في مقدور الشعوب المستقلة حديثاً أن تجمع بينها وبين التركيز على حرّية شعوب العالم، والحفاظ على استقلالها.
فُرضَ هذا الوضع فرضاً من قِبَل دول الهيمنة العالمية الغربية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً، من جهة، وفُرِضَ بسبب عدم القدرة عموماً، على تأمين مستوى من المعيشة يسمح بتحقيق رضى عام، ورفاه عام، وهما شرطان من شروط توافر الحرّيات الفردية. فالغرب حين استطاع أن يقدّم نموذجه الديموقراطي السياسي، وتأكيده الحرّيات الفردية، استند إلى رفاه عام نتج من نهب العالم، وما فرضه من لا عدالة تجارية بين المواد الخام والزراعة، من جهة، وبين المواد المصنعة والتكنولوجيا واحتكارهما (حقوق الملكية الفكرية)، من جهة ثانية، فضلاً عن النهب المباشر للمواد الأولية بأدنى الأسعار.
المعركة العالمية اليوم التي تخوضها الصين وروسيا، وعدد كبير من دول العالم الثالث، ضد نظام الأحادية القطبية المتمثلة بأميركا (والصهيونية شريكة لها من داخلها)، أخذت تؤكد أن النظام العالمي الجديد، المطلوب إحلاله محل أحاديّ القطبية (والهيمنة المركزية الأوروبية الغربية)، يجب أن يكرّس حق كل شعب في بناء خياره الخاص به، ليس من ناحية النظام السياسي فحسب، وإنما أيضاً من ناحية الأبعاد الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والحضارية، بما يتناسب مع تاريخه، وتقاليده وخياراته. وذلك حين يبني حداثته، بعيداً من الهيمنة الغربية، التي تعمل على فرض حداثة عالمية، تابعة لها، على كل البلدان، سواءً بسواء.
هذه القضية أخذت تُطرح في البيانات المشتركة، والمؤتمرات الصحافية التي تشارك فيها الصين وروسيا، وعدد من بلدان العالم الثالث والعالم الإسلامي. الأمر الذي يكون قد ارتفع بعالمية، وأولوية تحرير الشعوب وحرّيتها، في تحديد خياراتها، ليصبح جزءاً من الحرب الأيديولوجية الدائرة الآن، مع أميركا والغرب.
وبكلمة: لم يعد مقبولاً أن يُسمح للغرب بفرض ما يطرحه من حداثة، مثلاً كتلك التي تتعلّق بحرّية الطفل في اختيار جنسه، وهو في الخامسة من عمره، أو إطلاق حرّيات فردية تدمّر العائلة والروابط العائلية، وغيرها من الروابط الاجتماعية والعالمية. فليختر الغرب ما يشاء من حرّيات فردية، ولكن ليس من حقه أن يحاول فرضها، أو ممارسة أيّ ضغوط لفرضها.
وبهذا يكون الصراع الذي بدأ، بين خيار الحرّية الفردية للنظام الرأسمالي الغربي العالمي من جهة، وبين حرّية الشعوب وتحرّرها من الهيمنة الاستعمارية الغربية عليها، من جهة أخرى، قد مثّل ذلك الثورة العالمية، ليس كما طرحت الماركسية، باعتبار ثورة الطبقة العاملة في الغرب الرأسمالي هي الثورة العالمية، وتبيّن بأنها كانت كالحبَل الكاذب. ثم كان اعتبار ثورات الشعوب جزءاً منها، ظلماً بحق الأخيرة، وبحق الواقع الفعلي للتناقضات والثورة. إن انتقال الصراع اليوم إلى صراع الشعوب للتحرّر من الهيمنة الأميركية الواحدية للعالم، راح باتجاه الثورة العالمية التي مثّلها تحرّر الشعوب، إلّا أن الواقع الغني بتطوّراته جعل من الصين وروسيا، رأس هذا الصراع العالمي اليوم، ومن دون أن تمثّلا حركتَي تحرّر وطني للشعوب المظلومة، وإنما أوجدتا حالة تقاطع، ضد القطبية الأميركية والهيمنة الغربية. وهي ظاهرة تشمل الكثير من دول العالم التي كانت مستعمرات في الماضي، ومرّت غالبيتها بمرحلة التحرّر الوطني والثورة. ولكنها انتهت اليوم إلى دول هجينة، لا سيما في المرحلة الممتدة من انتهاء الحرب الباردة إلى اليوم، وما تشكّل خلالها من توسّع في النفوذ الأميركي على الكثير من هذه الدول.
هنا يمكن التوقّف عند ظاهرة ما يبرز من تناقض بين الحرّية الفردية وحرّيات الشعوب، إذ أخذ هذا التناقض يتراجع بدوره من تناقض بين الهيمنة الأميركية-الأوروبية، وبين ما تطرحه الصين وروسيا، من المطالبة بنظام عالمي على أساس ما عبّرت عنه القوانين الدولية، وميثاق هيئة الأمم المتحدة، مستبعدين أي خلاف بين الرأسمالية، أو حول الحرّية الفردية. وذلك مع إصرار أميركا باتهام كل من روسيا والصين، باعتبارهما نظامين شموليين، معاديين للحريّة الفردية، كما حدث في الحرب الباردة. وذلك في وقت راحت فيه المعطيات تتغيّر كثيراً بين حالتي الصراع، في حالة الحرب الباردة، وفي الحالة الراهنة. ولكن على مستوى كل دولة من دول العالم، فإن الخيار ما زال بلا حلّ، بين حرّية الفرد وحرّية الشعب، أو حرّية غالبية الأفراد. وذلك من دون العودة إلى الصراع السابق بين الحرّية الفردية، وحرّية الشعب، أو حرّية غالبية الأفراد من الطبقات الشعبية.
هنا أصبح من الضروري أن تبلور أيديولوجية جديدة، تتعلّق بالعدالة الاجتماعية، وبأعلى مستوى من المشاركة الشعبية، في تقرير ما يقوم من نظام سياسي، جنباً إلى جنب، مع جعل الحرّية الفردية تشمل حرّية غالبية الأفراد، وليس نخبة محظوظة تمثّل أقلّية تحوّل الحرّية الفردية إلى احتكار لها، وإلى مظالم تصبح من نصيب غالبية أفراد المجتمع. كما هي تجربة الحرّية الفردية في تجربة الرأسمالية الغربية المتوحشة.