مداخلة قدمها أ.د. الشهيد محمد عبد الملك المتوكل في منتدى "جار الله عمر" بساحة التغيير في شهر أغسطس 2011 م.. اقرأوا الخطاب وستفهمون لماذا اغتيل صاحبه، قبل أشهر، وقبيل شنّ الحرب على اليمن..
الأخوات الحاضرات.. الأخوة الحاضرون
أحييكم بتحية العروبة و الإسلام، السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أبارك لكم بشهر الجهاد وشهر النصر. والذي فيه غلبت القلة المؤمنة في بدر الكثرة الكافرة من قريش، طلب مني المنظمون أن تكون مداخلتي عن أخلاقيات وقيم الثورة، وسوف أحرص وبشكل خاص في هذا الشهر الكريم أن أستهدف بالقرآن الكريم والسنة القولية والفعلية للرسول صلى الله عليه و آله وسلم.
القيمة الأولى
أن ينطلق الثوار من أجل قضية و ليس ضد أشخاص، وذلك يعني أن لا يكون هدف الثورة هو العداء والكراهية لهذا الشخص أو ذاك، وإنما هدف الثورة هو تحقيق قضية تتعلق بالمصلحة العامة.
هذا التحديد الواضح يجعل الثوار يتفادون استبدال أشخاص بأشخاص، وحسب وإنما استبدال نظام فاسد متخلف بنظام صالح متطور. وإلا فقد يأتون بأشخاص يمتلكون نفس الثقافة ويمارسون نفس الممارسة، وإذا بهم يقلعون "بصلي" ويغرسون "ثومي" وكأننا يا بدر لا سرنا ولا جينا.
على الثوار ألا يعتمدوا في تحقيق أهداف الثورة على حسن الظن أو سوء الظن على المحبة أو البغض لهذا أو ذاك، وإنما يتم الاعتماد على ضوابط لا تسمح لأي شخص أن يمارس ما ثاروا عليه ولا يخرج عن النهج الذي ثاروا من أجله.
والضوابط ليست نصوصاً وحسب، وإنما تتعدى إلى الواقع العملي والتنظيمي وتوازن القوى الذي يجعل من المتعذر تجاوز الضوابط المتفق عليها من قبل أي طرف فالظلم من شيم النفوس والتوازن سنة من سنن الله في الكون "ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". ويقول الله عز وجل: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع".
و لنا في تجاربنا خير عبرة من عام 48 وحتى عام 78.. ان الطريق إلى النار مفروش بحسن النوايا والله عز وجل يقول: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار".
القيمة الثانية
أن يكون الثوار نموذجاً في سلوكهم وممارساتهم لما يتطلعون إلى تحقيقه ولما ثاروا من أجله، وما لم يكونوا قدوة فيها يدعون إليه فإن أحداً لن يصدقهم ولن يطمئن إليهم ولن يكونوا سوى نسخة ممن ثاروا ضدهم وصدق الله القائل: "أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم" ولو جاء الأنبياء والرسل بالتورات و الإنجيل والقرآن وكان سلوكهم لا يتطابق مع ما جاءوا به ما صدقهم أحد ولا تبعهم فرد.
على كل ثائر أن يقيم سلوكه، أنت ثرت ضد الاستبداد، هل أنت في سلوكك العام تمارس الاستبداد على من تقدر عليهم ابتداء من اسرتك وحتى العمل العام؟
أنت ثرت ضد تهميش الآخر و إقصائه، فكيف تتصرف مع من يختلف معك في الرأي والحزب، والمذهب، والدين والقبيلة والمنطقة؟ أنت ثرت ضد احتكار السلطة والثروة وعدم المشاركة، هل أنت في سلوكك العام لا تمارس ذلك في حدود عملك و سيطرتك؟! هل تتقبل النقد بسعة صدر أم أنك من ذوي اللحوم المسمومة والمنتفخين في ذواتهم والذين يتصورون أنهم فوق النقد وأن نقد أخطائهم إهانة لذواتهم، فتنتفخ أوداجهم و تضيق بهم الأرض بما رحبت إذا ما انتقدوا؟! أين أنت من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه والذي قال: رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي" والذي لم يتردد أن يقول أمام الجميع في مسجد: "أصابت امرأة و أخطأ عمر". وأين أنت من الخليفة أبو بكر رضي الله عنه والذي قال للمسلمين: "لو رأيتم في أعوجاجاً فقوموني.. فقالوا لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا". و أين أنت أيضاً من عمر الذي رد على من تردد في نقده فقال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها".. هل أنت من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. عموماً إذا كنت ثائراً ضد ممارسات خاطئة، لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم..
القيمة الثالثة
عدم الادعاء بامتلاك الحقيقة وافتعال الخصومة والعداء وكيل التهم بالكفر والعمالة والظلامية والاندساس والانفصالية والإمامية والعنصرية وغيرها لمن يتناقض رأيه مع رأيك و التزم بالمنهج القرآني في التعامل مع الرأي الآخر.. "و أنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" وليكن ذلك في التعامل مع الرأي الآخر ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه: "رأيي صواب يتحمل الخطأ ورأي غيري خطأ يتحمل الصواب".
القيمة الرابعة
أن يمتلك الثوار روح التسامح، فالثورة الحضارية ثورة بناء لا ثورة انتقام، خصمك هو من يقاوم ما تسعى الثورة لتحقيقه للمصلحة العامة، فإذا ما تراجع الشخص وقرّر السير في ما سار فيه الثوار أو توقف عن مقاومته فباب التوبة مفتوح، ولنا في رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم خير قدوة في تعامله مع من حاربوا الإسلام ثم تابوا وخير مثل على ذلك موقفه مع خالد ابن الوليد الذي كان السبب في هزيمة المسلمين في أُحد والتي قتل فيها أسد الله حمزة عم النبي و سبعون من خيار الصحابة و سقط فيها الرسول أرضاً حتى كسرت ثناياه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك حين دخل خالد الإسلام أسماه "خالد سيف الله المسلول". إن التسامح ميزة حضارية تؤكد أن الثوار لم ينطلقوا من عداء شخصي ورغبة الانتقام وإنما ثاروا من أجل تحقيق المصلحة العامة.
القيمة الخامسة
الالتزام بمبدأ المتهم بريء حتى تثبت إدانته حيث يمكن لا مكان للانطباعات الشخصية في اتخاذ أيّ عقاب على من يتهمونه حتى لو كانوا على يقين مما اتهموه به. القضاء المستقل العادل وحده هو صاحب الحق في الحكم عليه. وعليه فعلى الثوار أن يلتزموا بعدم اتخاذ أي عقاب على من يتهمونه فلا يجوز أن يكونوا القضاء والخصوم. و بهذا يتم ترسيخ مبدأ سيادة القانون واحترام القضاء، ومنع الرغبة في الانتقام لهوى في النفس وبذلك نحمي الثورة من روح الانتقام والانتقال المتبادل الذي جرّ على اليمن الكوارث والمحن والذي عطل التقدم وبدد الإمكانيات وأهدر الطاقات وأوصلنا إلى ما نحن فيه.
القيمة السادسة
أن يتفادى الثوار التعميم فإذا كان الإمام هاشمياً فليس كل هاشمي شريكاً في أخطائه وإذا كان الحاكم زيدياً فليس كل الزيود شركاء في جرائمه، وإذا كان الحاكم سنحانياً فليس كل السناحنة أو الحاشديين شركاء فيما ارتكبه، وإذا كان الحاكماً شمالياً فليس كل الشماليين مسؤولين عن ظلمه وفساده وحروبه واذا كان الحاكم جنوبيا فليس الجنبيون مسئولون عن ظلمه. وإذا كان الحاكم من أسرة لا ذنب لنسائه و أطفاله ومن لم يشارك من أهله في أخطائه.. لا يجوز التعميم، هكذا علمنا القرآن الكريم. "ولا تزر وازرة وزر أخرى".. وعلى الثائرين الالتزام بحكمه وأخلاقية الحكيم العليم يوسف عليه السلام والذي قال: "معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده".
القيمة السابعة
أن يتجنب الثوار أن يقولوا مالا يفعلون "فقد كبر مقتاً عند الله أن تقولون مالا تفعلون" وعلينا أن نفرق بين من يمتلك علوماً ومعارف وأفكاراً ومبادىء ولكنها لم تتحول إلى سلوك في حياته وهذا ما نطلق عليه متعلماً وهو من شبهه الله "كمثل الحمار يحمل أسفاراً"، وهناك من تحولت معلوماته وأفكاره إلى سلوك عملي في حياته وهو ما نسميه مثقفاً وكذلك الأمر بالنسبة للتفريق بين المؤمن والمسلم.. المسلم التزم بالطقوس الدينية ولم يلتزم بالصالحات والتي ترتكز عليها قيم وأخلاقيات الدين الإسلامي، يقول الله تعالى: "ولا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الأيمان قلوبكم" قيل يا رسول الله وما الإيمان قال: "ما وقر في القلب و صدقه العمل" و عليه فالثائر المثقف المؤمن هم من تحولت أقواله ومعارفه وعلومه وأفكاره إلى سلوك عملي في حياته اليومية. وسنة الله في الكون ألا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
القيمة الثامنة
أن نتحلى كثوار بآدب الحوار آدب الدعوة القرآني.. " ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".. إنها دعوة إلى تجنب الفظاظة وشخصنة الحوار وكيل التهم لمن نختلف معه في الرأي .. لقد طلب الله ألا يجادل المسلمون أهل الكتاب وهم المختلفون في الدين إلا بالحسنى و لدينا مثل قراني لأدب الحوار والتعامل مع الآخر: "قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون".. حين كان الحديث عن النفس قال أجرمنا وعند الحديث عن الآخر قال فعلتم، أيّ أدب وأيّ خلق أعظم من هذا الأدب الرباني؟ ومن أدب الحوار حسن الإصغاء إلى الآخر واستيعاب ما يطرحه لأننا تعودنا ألا نصغي إلى الآخر ولا نحاول فهم ما يقوله وإنما مشغولون بكيف نرد عليه مع أنه من المعروف أن المتكلم الجيد هو المستمع الجيد وعليه فإن على الثوار أن يتحاوروا بجدال حَسن وأن يتفادوا التجريح وشخصنة الحوار وأن يدعوا بالحكمة ويصغوا باهتمام.
القيمة التاسعة
أن يعمل الثوار على تهميش جوانب الخلاف فيما بينهم وتعظيم جوانب الاتفاق مع الحرص على أن يتعاونوا من خلال القواسم المشتركة ومع صدق المشاركة في جوانب اللقاء سوف تذوب مع مرور الأيام جوانب الاختلاف ، وتنمو الثقة، وهذا ما وصلت إليه أوروبا بعد حرب طاحنة. علينا أن نتخلّى عن القاعدة المتخلفة التي تنسف فيه نقطة خلاف واحدة 99 % من نقاط اللقاء وكما قال الإمام الرشيد رضا: "لنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر كل منا الآخر فيما اختلفنا فيه".
القيمة العاشرة
و الأخيرة وليست الآخرة.. تمسّك الثوار الصلب بأهداف الثورة ومبادئها الأساسية مع الاستعداد للصبر على المكاره في سبيل ذلك، وبالمقابل المرونة في تكتيكات الوصول إلى الهدف، ولنا قدوة في الرسول عليه الصلاة والسلام في موقفين، الموقف الأول: حين ساومته قريش على ترك الدعوة مقابل الملك و المال فقال: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه". الموقف الثاني: في صلح الحديبية حين قبل كموقف سياسي وتكتيكي لأن تستبدل البسملة بـ"اللهم وألاّ يذكر النبي وقد آثار ذلك بعض أصحابه المتحمسين وكانت نتيجة الاتفاق تحقيق الهدف بكلفة أقل.
الثورة ليست حماساً انفعالياً ولا بركاناً يرمي حممه يميناً وشمالاً دون وعي أو تخطيط. نجاح الثورة يعتمد على خطط مرسومة وبرامج معدة بعناية وحسابات لكل صغيرة وكبيرة وحتى تكون الفائدة أكبر والكلفة أقل والأخطاء محدودة، وكما قيل: "الرأي قبل شجاعة الشجعان"، والعمل غير المحسوب يدخل في المحظور القرآني المتعلق بإلقاء النفس إلى التهلكة.. لقد قدم ثوار الساحات أعظم التضحيات وبشجاعة نادرة ودوافع وطنية صادقة لم تبخل بالروح والنفس وبدمائهم الزكية رووا شجرة الثورة.. وتقديراً لهؤلاء الشهداء الأبرار علينا أن نتجنب الأخطاء التي قد تجر إلى الإحباط والفشل في نهاية الأمر.
وإذا ما عدنا إلى النهج القرآني والسنة النبوية في النضال في سبيل المبدأ نجد أنفسنا أمام ثلاثة مناهج متدرجة:
المنهج الأول: النهج السلمي الإنساني الحضاري وهو الدفع بالحسنى وهو ما نسميه اليوم بالنضال السلمي.. يقول الله تعالى: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم".. وهذا النهج له كلفته ولا يقدر عليه إلا الصابرون وذوو الحظ العظيم "وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم".
المنهج الثاني: هو الاستعداد لا بهدف العدوان وإنما بهدف جعل الطرف الآخر يرهب ويتردد في العدوان عليك، وهو ما نسميه في عصرنا توازن الرعب. يقول الله تعالى: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم".. "وإن جنحوا للسلم فاجنح له وتوكل على الله".
المنهج الثالث: منهج رد العدوان بمثله، يقول الله تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله وأعلموا أن الله مع المتقين"
اختيار أي منهج من هذه المناهج أوضحته السنة في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان".
و الرفض بالقلب لا يعني ألا تقبل به ولا تتعاون معه ولا تقره على فعله لا قولاً ولا فعلاً.
أكتفي بالوصايا العشر مع التزامي بمنهج الإمام الشافعي "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي خطأ يحتمل الصواب".
و صدق الله القائل: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".