1. يسارُنا الحزبيُّ لم يقمْ بنقدٍ ذاتيٍّ أراهُ ضروريًّا لاستمرارية الفكر اليساري وتطويرِه في تونس، أي لم يُقيّمْ التجربة الشيوعية العالمية في القرن 20م حتى بعد انهيار تجربة المعسكر السوفياتي وثبوتِ فشلِها. يسارُنا يساريٌّ أكثر من يساريِّ روسيا أنفسِهم. يسارٌ متعالٍ مكابرٌ! (وصفٌ وليس ثلبًا والله).
2. يسارُنا الحزبيُّ تخلى تمامًا عن تناقضِه الرئيسي مع السلطة والبورجوازية المحلية والأجنبية .يبدو لي أن أنه لم يعد واردًا في عصر العولمة ولا صحيحًا الفصلُ بين البورجوازيتَين. أما مفهوم "البورجوازية الوطنية" فقد أصبح حسب اجتهادي مفهومًا بالِيًا إذن لاغيًا - Un concept périmé donc caduque ورَفَعَ مكانَه تناقضًا ثانويًّا (حسب أدبيات الماركسية وليس اجتهادًا منّي)، تناقضًا متمثلاً في معارضته للإسلام السياسي (لم أقل ليس مهمًّا، قلتُ فقط أنه ثانويًّا!. )
3. يسارُنا الحزبيُّ أقرَّ صراحةً وعلنًا بأن هويةُ الشعب التونسي هي هويةٌ أمازيغيةٌ-عربيةٌ-إسلاميةٌ، والدين الإسلامي هو مقوّمٌ من مقوّماتها الأساسية، وحَذَفَ من أسمائه وعناوينه كلمة "شيوعية". لكنه في المقابل ما زال يُمجِّدُ ويَحتفلُ بلينين وستالين وماو وڤيفارا وكاسترو في السر والعلن، وهذا أعتبرُه من حقه، لكن في تونس وَجَبَ عليه أن يختارَ بين الشعب التونسي وستالين.
بكل لطفٍ ومحبّةٍ وإخلاصٍ لليسارِ، عائلتي الموسعة التي لم أنكِرْ انتمائي لها أبدًا، أذكّره بمقولةٍ معبّرةٍ في هذا الإطار، مقولة فيلسوف يساري قرأته وأحترمه، اسمه عبد الله العروي، قالَ: "لا أحدَ مُجبرٌ على التماهي مع مجتمعه. لكن إذا ما قرّرَ أن يفعلَ، في أي ظرفٍ كانَ، فعليه إذن أن يتكلم بلسانه (المجتمع)، أن ينطق بمنطقه، أن يخضع لقانونه...".
بلغةٍ أوضح: أنا مثلاً - وبصفة فردية - حُرٌّ في أن لا أتماهَي مع مجتمعي التونسي المسلم وأبقَى ماركسيًّا (في الوقت الراهن أنا مسلم وفي نفس الوقت يساري، هويتين تُكمِّلُ الواحدة منها الأخرى ولا تناقضَ البتة بينها، يساري متماهٍ جدليًّا مع الهوية الأمازيغية-العربية-الإسلامية، هويتي الأصلية، هويتي الأمّ، يساري غير ماركسي وغير لبنيني وغير تروتسكي وغير ستاليني وغير ماوي وغير كاستري وغير ڤيفاري، أعني به اليسار التضامني، يسار تجربة جمنة، يسار ما قبل ماركس)، لكن حمة الهمامي مثلاً - وبصفته رئيس حزب العمال التونسي - ليس حرًّا، بل سياسيًّا هو مُجبرٌ على التماهي مع مجتمعه التونسي المسلم.
وحتى لو كان اليساري التونسي المتحزّب مُلحِدًا، فالدستور التونسي يضمنُ له حرية المعتقد، لكن وفي مجتمع مسلم يجبُ عليه كسياسي أن يحتفظ بإلحاده لنفسه ولا يُشهرُه رايةً في وجهِ ناخبِيه، ليس تقيةً أو نفاقًا بل لأن الإلحادَ هو مسألة فردية شخصية، أما الدين عمومًا والإسلامي خصوصًا، فهو جماعي واجتماعي أو لا يكون دينًا أصلاً. أضيفُ: الملحدُ التونسيُّ هو مسلمٌ، أنتروبولوجيًّا هو مسلمٌ، ثقافيًّا هو مسلمٌ، اجتماعيًّا هو مسلمٌ، وِراثيًّا-تراثيًّا هو مسلمٌ أيضًا، أي حضاريًّا هو مسلمٌ، شاء ذلك أم أبَى، فعليه إذن أن يتصرّفَ وفقَ هذا المُعطَى الاجتماعي.
مع الإشارة الهامة أنني آخر واحد يفتش في ضمائر رفاقي، أنا عَلماني مثلهم، لكنني علماني متصالح مع الدين مثل علمانيّي بريطانيا عكس علمانيّي فرنسا المعادين للدين، عداوةٌ ورّثوها للأسف لِجل الحداثيين الفرنكوفونيين التونسيين. علماني وأومن بصدقٍ بحرية المعتقد والضمير على عكس نظام ستالين الذي نشرَ الإلحاد في الاتحاد السوفياتي السابق ودرّسَه في جامعاته وهدمَ الكنائسَ والجوامع (هدمَ كنيسةً في موسكو وشيّدَ مكانَها بيتَ راحةٍ عموميًّا) وأثناء الحرب جمعَ كل نواقيس الكنائس، صَهَرَها وبِنُحاسِها صَنَعَ مَدافعَ.
عدمُ تماهي حزب العمال (ancien POCT) مع مجتمعه التونسي المسلم أفقده تواجد مناضليه في أهم الفضاءات الشعبية وهي الجوامع والمساجد والمناسبات الدينية.
4. يسارُنا الحزبيُّ فَسَخَ تاريخَه النضالي المشرِّف ضد بورڤيبة في الستينيات عندما أصبح اليومَ يُفضّلُ التحالفَ مع البورڤيبيين على التحالف - بِنية صادقة وبرنامج انتخابي واضح - مع البروليتاريا المسلمة غير المتعصبة وغير المتطرّفة.
ما دام يُصِرُّ ويقول "أنا مسلمٌ ولستُ ملحدًا"، وأنا أصدّقه إلى أن يأتي ما يخالف ذلك، وَجَبَ عليه سياسيًّا إذن أن يتخلى عن ترديد الكليشيه الذي يؤكّد خطأً أن الدين مسألة شخصية وعمودية بين المخلوق والخالق، تأكيدٌ يتناقضُ مع ما تقوله الفلسفة والأنتروبولوجيا "الدين الإسلامي اجتماعي أو لا يكون" والدليل أن أربع أخماس أركانه تُؤَدَّى جماعيًّا وليس فرديًّا، وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج، والله سبحانَه يتسامح في حقه ولا يتسامح في حق عبادِه الصالحينَ.
5. يسارُنا الحزبيُّ - للأسف - لم يتحرّر بعدُ من براديڤم (إطار تفكير) الماركسية النصوصي (orthodoxe) المتكلس المدرساني (scolastique)، ولم يخرج من هذا السجن الذي سجن فيه نفسَه بنفسِه وبإرادتِه، "جَنَتْ براقش على نفسها ولم يَجْنِ عليها أحدٌ"، ولم يتخلّص أيضًا من تصوّرٍ ضيقٍ للبروليتاري، تصوّرٍ ساد الأدبيات الماركسية طيلة قرنٍ وما زال يسودها إلى اليوم.
تصوّرٌ نمطيٌّ بالٍ، نَقَدَهَ وبشدّةٍ الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل أونفري، اليساري-غير الماركسي-الملحد-المسيحي حسب تعريفه لنفسه، مؤلف مائةَ كتابٍ (أشتركُ معه في يساريته-غير الماركسية)، قال: ماركس لم يحبَّ يومًا في حياتِه الفقراءَ ولم يُدافعْ عنهم أبدًا! "وكان يكرهُ أيضًا الفَلاّحِين والريفيين والعمال الفِلاحِيّين. في كل أعماله، كان يُمجّدُ عُمالَ المصانعِ في المُدُنِ والبروليتاري كان معبودَهُ. والأفضلُ فيهم لديه هو الطلائعيُّ المتنوِّرُ أو بعبارة أخرى العاملُ الماركسيُّ. أما هذه الحثالة شبه البروليتارية فلا مكان لها في السياسة، فهي النفايةُ، الشيءُ المنبوذُ، إفرازُ النظامِ السياسيِّ أو تضاريسُه سيئة الهضم، هي قذارةُ الطيورِ المُزَقَّمَةِ." (Michel Onfray, La lueur des orages désirés, Éd. Grasset, 2007, p. 107).
يسارُنا الحزبيُّ، أمامه فرصةٌ ذهبية للتحرُّرِ والتماهي جدليًّا (interaction) مع مجتمعه التونسي المسلم: تتمثلُ هذه الفرصة في الاقتصاد الاجتماعي التضامني (ESS)، مجالٌ أرحبُ وأنفعُ لليسار الحزبي والمجتمع ويمكن في داخله التعامل مع القوميين والنهضاويين واليساريين المستقلين أمثالي والناس غير المنتمين، وعنديَ الدليلُ القاطعُ على وجاهة أطروحتي، حتى ولو كانت محدودةً في الجغرافيا وفي عدد المستفيدين منها: تجربةُ جمنة الرائدة والناجحة في الاقتصاد الاجتماعي التضامني، تجربةٌ يُشرِفُ على تسييرها تطوّعًا كاملاً ومنذ ثمان سنوات عشرة أفراد جمنين، فيهم القومي والنهضاوي واليساري المستقل وغير المنتمي (من حسن حظنا كجمنين أنه لا يوجد بينهم دستوري واحد ولا تجمعي واحد)، يعملون جنبًا إلى جنبٍ من أجل خدمة المصلحة العامة لا غير.
مجالُ الاقتصاد الاجتماعي التضامني، مجالٌ قد يحقِّقُ اليسارُ الحزبيُّ فيه ذاتَه دون أن يناقضَ مبادِئَه المتمثلة أساسًا في "العدالة الاجتماعية" العمود الفِقري للاشتراكية، لينينيةً كانت أو تروتسكيةً أو ستالينيةً أو ماوية، مع الإشارة أن كل زعماء هذه التيارات زارتنا في جمنة وساندتنا، بارك الله فيهم، وكأشخاص محترَمين الله يرحم والديهم.
اقتراحٌ وديٌّ أوجهه لليسار التونسي الحزبي: عليه تركيز نضاله الاجتماعي الإصلاحي على مطالبة الدولة بتعميم تجربة جمنة على المساحة الجملية للأراضي الدولية (500 ألف هكتار من أخصب الأراضي الفلاحية موزّعة على جميع ولايات الجمهورية). لو فعلها ونجحَ لَحققنا الاكتفاء الغذائي وأصبحنا من مصدّري السكّر والقمح والشعير فوق الزيت والدڤلة والقوارص، ولَكنتُ له من أولِ المسانِدينَ وأخلصِ الناخبينَ.
خاتمة: سؤالٌ وُجِّهَ إليَّ عديد المرّات (أخرهم، صديقي الجديد وجليسي محرّك النقاش في الطاولة الثقافية الصباحية بمقهى الشيحي الذي لم أنجح في إقناعه بأي فكرةٍ من أفكاري المتعدّدة والمتنوّعة، طارق المهذّب الصادق المتحمّس السنبتيك ) :لماذا تركّزُ دومًا على نقدِ اليسارِ وتُهمِلُ نقدَ "النهضة"؟
الجواب باقتضاب: أولا، أنا لم أهمل نقدَ "النهضة"، لكنني لا أعاديها وفي نفس الوقت لا أتعاطفُ معها وكشريك أساسي في حكمِ تونس أحمِّلها المسؤولية القانونية والأخلاقية الكاملة (لا الجنائية لغياب الدليل القاطع) على تدهوُرِ ظروفنا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية بعد الثورة ولا أقبل عذرها المتمثل في حجتها الواهية القائلة بأن القرار الأخير ليس بيدها، أقبله فقط لو استقالت من السلطة وعارضت سياسة "التجمّع" المطبقة اليومَ دون "تجمّع". أصدقائي النهضاويون الطيبون يتعذّرون بإكراهات السلطة، إكراهاتٍ لا أعرفها ولستُ مُطالَبًا بمعرفتها. ترجمتُ مرة مقالاً في جريدة "لوموند ديبلوماتيك" ينقد "النهضة" ونشرتُه، الجميل في هذا المقال أن الكاتب ركّز على فشل النهضة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ولم يتعرّض تمامًا للدين ولا للهوية، تقاسمه عديد النهضاويين أصدقائي الافتراضيين لموضوعيته.
أما اليسارُ، فهُم "أهلي وإن ضَنُّوا علىَّ كِرامُ"، فهذه قصةٌ معقّدةٌ:
- أسوقُ لكم حكاية قد تظهرُ لكم في أوّلِ وهلةٍ وكأنها خارجةٌ تمامًا عن السياق: لكي تُصبِحَ مختصًّا في نقد المعرفة البيولوجية (إبستمولوجيا البيولوجيا) - épistémologie de la biologie يجب أن تكون عالِمًا بالبيولوجيا حتى تستطيعَ نقدها بنجاعة.
- أنا يساري، قرأتُ ما تيسّر من أدبيات اليسار وعشتُ 46 عامًا في جوّ يساري-نقابي خارج جميع التنظيمات اليسارية السرية منها والعلنية وهذا الجو المستقل كان بالنسبة لي بمثابة اللقاح ضد أمراض اليسار المزمنة (l`embrigadement, l`extrémisme, le dogmatisme, l`infantilisme, etc ). لكنني لستُ إسلاميًّا ولا إسلامولوڤ ولم أقرأ إلا القليل القليل من أدبيات الحركات الإسلامية وأدبيات الإسلام، لذلك ولذلك فقط أحترم جهلي بالميدانَين ولا أتطفّلُ على مجالٍ درايتي فيه متواضعة جدًّا جدًّا (الفيلسوف الفرنسي أونفري، قبل أن يكتبَ كتابَه الشهيرَ "أطروحة الإلحاد" (Traité d`athéologie, 2005) الذي تناولَ فيه بالنقدِ الديانات التوحيدية الثلاثة، قرأ بالتفصيل القرآنَ والتفاسيرَ والحديثَ والشروحَ، باللغة الفرنسية بسبب جهله باللغة العربية).
فهلاّ فهمتم يا سادتي يا كرام لماذا تحدّثتُ أعلاه على الإبستمولوجيا؟ أعوّلُ على ذكائكم.
- قال الفيلسوف أونفري معلقًا على العملية الإرهابية الداعشية في باريس: "الغرب المعادي للإسلام قتل أربعة ملايين مسلم منذ حرب الخليج الأولى سنة 1991 فجَنَى ما زرعَ عالميًّا".
أخذتْ داعش تصريحَه هذا ووظّفته في دعايتها ضد الغرب الإرهابي المحترف فوجه له الإعلام الفرنسي المشيطن للإسلام والمسلمين لومًا شديد اللهجة. ردّ قائلاً: لوموا أنفسَكم قبل أن تلوموني وما ذنبي أنا إذا استعملتْ داعش كلامي؟ وحديثنا قياس: لامَنِي اليسارُ التونسيُّ على إقبال النهضاويين على مقالاتي الناقدة لليسار (ما أبعد النهضة على داعش). أجبتهم قائلاً: اصلِحوا أمورَكم، يكون أنجعَ ردٍّ عليًّ أنا وعلى النهضاويين في نفس الوقت، فترتاحون من الاثنين بضربةٍ واحدةٍ "عُصفورَين بحجرٍ واحدٍ".
إمضاء مواطن العالَم
أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى الفردِيِّ وكُنْ كما شِئتَ (La spiritualité à l`échelle individuelle).
"النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ" محمد كشكار
"المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو
"وإذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ" جبران