ليست فكرةُ "المايسترو" طريفةً، فهناك عشرات الأعمال الّتي تنطلق من عالم مغلق لفئةٍ منبوذة أو مقصيّة لتصل إلى تخوم الذات البشرية. يبقى "مستشفى المجانين" هو الأكثر إغراءً، وربما السجن أيضا، أمّا الإصلاحيّة فهي الأقل حظوة وربّما الأكثر تعقيدا إذا ما رمنا صياغة الدراما انطلاقا من نفسيّة الشخصيات وتطوّرها.
لكنّ مايسترو الأسعد الوسلاتي فضّل النهج المعتاد: تفضيل القضية الاجتماعية على التحدّي الأدبي، ووصف الواقع الاجتماعي عوض الواقع النفسي. يقول المخرج إنّه قام بعملٍ بحثيّ كبير في واقع الإصلاحيات في تونس، وظروف عيش الأحداث داخلها. وأعتقد أنّ المسلسل جاء تأكيدا لهذه الحقيقة، إذ نلمسُ أصالةَ الحالات الاجتماعية الّتي كانت وراء معظم شخصيات المسلسل، ولا يتعلق الأمر بالأحداث فحسب، بل أيضا بأعوان السجن (طارق مثلا) أو غيرهم. وتقريبا تعرّفُ كلُّ شخصيّة بقضيّة اجتماعية تشغلها (العنف الزوجي، سرطان الثدي، النزوح من أجل لقمة العيش، الخ).
تُطرح المسائل الاجتماعيةُ في الأعمال الفنية سواء في قالب واقعيٍّ أو غيره بغرض إعادةِ تشكيلها، حتّى يتسنّى فهمُها ويسهُل التأمّلُ في أسبابِها وعواملها... وأحيانا يمكن الاكتفاءُ بطرحِها حين تكون مجهولةً، أو التركيز على تفاصيلها وإثارة مشاعر الصدمة عبرها حتّى يتسنّى التحسيس بأهميّتها. لكن في أعمالنا الفنيّة، تطرح المسائل الاجتماعيةُ كغرضٍ بذاته من الفنِّ، كوسيلةٍ للتكفير عن جريمة اقترافِ الفنِّ وجعله "هادفا" ذا شرعيّةٍ. كلّما زادت القضايا "المطروحةُ" كلّما زاد العملُ طهارةً.
ينطبق هذا الأمر على المايسترو إلى حدّ كبير، فأغلب المواضيع الاجتماعية المطروحة، لا تتجاوز حظّ وجودها. فمشكلة سرطان الثدي عند "رقية" (درة زروق) هو أشبه بومضات تحسيسيّة تكاد تكون مستقلّة عن احداث المسلسل. قد يطرأ ما يغيّرُ ذلك مستقبلا، ولكن الكاتب اجتهد في حفظ شخصيّتها من كلّ تأثر بمُصابها إلى حدود اللحظة : لحظة شرودٍ عن حبيبها حينما علمت بالشكوك حول المرض، ثمّ عادت العلاقةُ بينهما طبيعيّة. في وقتٍ كان من الذهبيِّ استغلاله لإبراز تدهور علاقة المرأة المصابة بجسدها، وفتور احساسها بأنوثتها، تواصل ارتداء أجمل ما عندها، دون حتى أن يبدوَ ذلك ضربا من المقاومة. وعلى كلّ حال فأداء درّة زروق طوال المسلسلِ لا يعدو أن يتجاوز مستوى الومضات التحسيسيّة…
وكذلك كان الأحداثُ واجهاتٍ لمشاكلهم الاجتماعيةِ، هم هنا لأنّ آباءهم وأمهاتهم فشلوا، أو لأنّ المنظومة فاشلةٌ لكنّنا لا نرى أبعد، ولا نرى تدقيقا أين كانت المنظومةُ فاشلةً. إنّهم جميعا مظلومونَ، ويبدو أيضا أنّهم رغم التهميش والإهمالِ يملكون تربيةً جيّدة ـ لسبب ما ـ ولا يشذُّ عن هذه القاعدةِ سوى صبيّانِ يفتقرُ تعريفُهما إلى أية مشكلة اجتماعيةٍ، وهم بالتالي أشرارٌ لأنّهم كذلك، ولا يدعونا الكاتبُ للتعاطف معهما.
تلك هي مشكلةُ المايسترو، فالعمل البحثيُّ جيّدٌ لفهم الواقع الموضوعيٍّ، لإحصاء الحالات والمشاكل الاجتماعية المختلفة، لكنّه لن يفيد في فهم الإنسان الذي هو واجهةُ هذه المشاكلِ. فهنا تكونُ إضافةُ الفنّانِ الأصليّةُ.
لكنّ الأسعد الوسلاتي بدا عاجزا، مثلما كانت شخصيّةُ رقيّة النفسانيّة أمام أطفالٍ تواجههم منذ سنوات عديدةٍ بعين دامعة كأنها جمهورُ برنامج اجتماعيٍّ وليست محترفةً ألفت هذه الحالات واكتسبت بعض خبرة في التعامل معها. خطابُها سلبيٌّ ولم تقدر في كلّ الحوارات أن تروّض مرضاها وتجعلهم يقبلون على الحديث إليها.
لكنّها في المقابل تنجح حين يتعلق الأمر بحلّ مشاكل اجتماعية. والحقيقةُ أن الحلول الفعليّة التي يقترحها المسلسلُ تدور حول البرِّ charity، فنقل المايسترو من موسيقار إلى رجل خدومٍ رؤوف لا أكثر. يعطي النصيحة لهذا ويساعد ذاك بطلب أو غيره. أما الموسيقى نفسُها، جوهر العملِ وخلاصةُ رسالتِه، فلا نرى منها إلا نتائجها. فكرةُ التربية بالموسيقى ليست أمرا طريفا أيضا، فقد عرفناه مع إحدى أشهر قصص القرن الماضي : قصّةُ مغنّي العائلة ترابّ The Story of the Trapp Family Singers الّتي عرفها العالم بفلم صوت الموسيقى The sound of music. والمقارنة هنا (لا بغرض الحطّ من قيمة العمل ولكن بغرض فهم الإشكال) تشرح لنا غياب الموسيقى في عملية "إصلاح" هؤلاء الأحداث. أو ربما حضورها غير المقنع. ويعود ذلك ربما إلى ضعف كبير في إخراج المشاهد.
كي لا أبدوَ متجنّيا، سأعدد بعض المشاهد:
1- مشهد عراك الأطفال في المطعم في تزامن مريب بمجرد أن تشاجر اثنان منهم. لا أحد فهم لماذا نهض الاخرون ولماذا اندفعوا يضربون بعضهم البعض. هم أنفسهم لم يفهموا!
2- مشهد محاولة الطفل المشاغب خرق عجلة سيارة الموسيقيِّ، حيث كانت نيته واضحة للعون وللطفل الذي ضبطه متلبسا، ولكنّ كليهما لم يفهما شيء.
3- مشهد قدوم الأب المسنّ في سيارة الموسيقي ووقوفه أمام ابنه الذي لم يلحظ أباه إلا عندما فتح له الموسيقيُّ السيارة.
4- لماذا يجب أن نعتبر إلقاء حجر على شباك طفلةٍ امرا رومنسيّا؟ وكيف تستقبله الطفلة بدون جزع أو صراخ؟
5- في الوقت الذي يدين فيه المسلسلُ العنف على الأحداث، نجد المايسترو يركنُ إليه في أوّل حادثة اشتباك مع أحد تلاميذه، وطبعا يسمح بفعل ذلك مادام التلميذُ هو ذلك الذي قرّر المخرجُ أن يجعله الشرير الذي يستحق كل ما يحصل له.
هناك الكثير من المشاهد الساذجة الّتي كان يمكن تفاديها والتعامل معها بعناية أكبر. هناك الكثير منها في كلّ حلقة، ولم يساعد أداء بعض الممثلين في تجاوزها، من درة زروق، إلى وجيهة الجندوبي الّتي رغم كلّ جهودها لم تنجح في ذرف دمعة على ابنها. في المقابل، كان أداء بعض الممثلين نقطة مضيئة في المايسترو وسببا أكيدا من أسباب نجاحه.
لا أعرف من قام بشخصية "طارق" ولكنّه كان مقنعا إلى حدّ كبير، وكذلك كان مدلّله الفتى المشاغب في حصص الموسيقى (نسيت اسمه)، ولبنى وفتية آخرين. أحمد الحفيان وغانم الزرلّي قاما بدوريْهما كما يجب، وساعدهما على ذلك وضوح الشخصيّتين، أمّا فتحي الهداوي فقد أنقذ بفضل عبقريّته شخصية المدير المتذبذبة. وعموما فقد عوّل المخرجُ على كتيبة جيّدة من الممثلين لا من الموديلات وعرائس الزينة كما الحال في أغلب الأعمال الدرامية لهذا العصر.
أما السبب الثاني الذي حقق نجاح المسلسل، وأدخله إلى قلوب الناس، فهو خطابه المتفائل الذي كاد الناس ينسونه وسط قتامة الصورة الدرامية منذ أكثر من عقد (لم يبدأ ذلك مع الثورة كما أرادوا تسويقه). تحدث المشاكل وتحلُّ بشكل سريع نسبيّا، ولا تؤرّق المشاهد طويلا، والحلول متوفرة، والتغيير يحدث بشكل مستمرّ ويحمل بارقة أمل لمشاهد ملّ من رؤية المشاكل في قالب تراجيديّ بحت. ولئن قدّمت هذه الحلول بشكل ساذج (الموسيقى، الحبّ والتفهم، الخ) لكنّ وجودها نفسه يعتبر أمرا إيجابيا جدا.
كخلاصةٍ، فمسلسل المايسترو عملٌ تميّز بإيجابيته، وبروح جديدةٍ متفائلة في طرح القضايا ولكنّها روحٌ لم تتخلّص نهائيا من التوجّه الدراميّ المعتاد في تونس، الذي يغلّب الاجتماعيّ على الإنسانيّ. كما كشف عن جدية في التعاطي من القضايا من قبل الأسعد الوسلاتي لم يدعمها بجدية مثيلة في التعاطي مع الشخصيات وتطوّرها.