لفهم المرحلة الراهنة وحاجياتنا فيها، يمكن تشبيه المجتمع التونسي بمراحل نمو شخصية الفرد وعلاقة ذلك بالتربية التي يستبطنها:
أولا ما قبل 2011 : مرحلة الطفولة ، القيمة الاساسية المطلوبة خلالها هي الطاعة بكل أصنافها: طاعة أولي الامر، طاعة الكبير، ”الكبير يعرف والصغير ما يعرفش“، "الي ما يسمعش كلام كبيرو الهم تدبيرو“... ثم في مرحلة بناء الدولة الوطينة، "طاعة "النخبة"، المتعالية بطبيعتها على مجتمعها ، النخبة تعرف والشعب جاهل، ولم يرى أفراد المجتمع من الدولة إلا وجهها السلطوي وتم تفويت فرصة استثمار القابلية للتربية والردع فيما يبني المجتمع ويفيده.
ثانيا من 2011 إلى اليوم: مرحلة المراهقة، قمة الصراع، التركيز على الهوية الضدية1 ،التمرد على كل أشكال السلطة، التمرد على أشكال الضبط الاجتماعي والاخلاقي ، ما حدث يشبه كثيرا حالة طفل بلغ مرحلة المراهقة فجأة دون اشتغال كافي على التمهيد لمرحلة البلوغ، ضيع نظاما بورقيبة وبن علي فرصة توظيف حالة الطاعة "الطبيعية" في الاكتساب التدريجي للحرية والاستقلالية ولم يقع استثمار القابلية "للردع التربوي" من اجل بناء المجتمع بقدر ما استخدم ”الردع“ لضمان سلطة الدولة وسلطة النخب و"دولنة المجتمع".
بفضل المكانة الهامة التي حضيت بها المدرسة في سياسة الدولة الوطنية وقع حراك اجتماعي كبير وتكونت طبقة وسطى هامة ساهمت في نشر التحديث دون أن تبني قيم الحداثة على نطاق واسع. بفضل نظام التعليم "النخبوي"، حقق الكثير من الافراد استقلاليتهم وتخلصوا من هيمنة”براديغم الطاعة“ لكن دون ربطه بمشروع تحرر اجتماعي أي لم يصبح ظاهرة اجتماعية شاملة لقطاعات واسعة من المجتمع...
تواصل التكريس لقيم ”براديغم الطاعة“ وقاد ذلك تدريجيا بداية من منتصف السبعينات إلى الانزياح عن المشروع الوطني لدولة الاستقلال وتكاثر ”الانتهازيين“ ونشأة ”المافيا“ ووكلاءها من المثقفين ”المختصين“ في خدمة الاقوى في المنظومة وتوظيف مؤسسات الدولة بعيدا عن مصالح المجتمع .
ثالثا: اليوم آن الأوان لبلوغ مرحلة ”الرشد“، والخروج من الدوائر المفرغة لتكريس النخب لحالتي الطفولة والمراهقة. مشروع قيس سعيد يقدم شيئا جديدا مختلفا ويقترح فرصة تاريخية للخروج بالشباب وبالمجتمع من مرحلة الوصاية وتجسيم قيم الحرية والمسؤولية والمشاركة بكل أبعادها ( وليس المشاركة في الاستهلاك ) للخروج من حالة اللامبالاة،
فرصة لتأسيس زمن سياسي جديد يقطع مع مرحلة المراهقة المتمردة ومرحلة الطفولة أي التبعية والطاعة التي يحن لها الكثير من الكهول والنخبة لضمان مواصلة هيمنتها وخدمة مصاحلها الضيقة واسقاط رؤيتها وحلولها وانظمتها الفكرية سواء التقليدية الموروثة منذ قرون أو المستوردة من النموذج الحداثي على النمط الفرنسي.. قلت لأحد الشبان المتحمسين لسعيد: ما يقدمه سعيد بمثابة "حرقة إلى إيطاليا ، غير مضمونة العواقب" فأجابني "وماذا بقي للشاب التونسي غير ذلك، وزيد الحرقة كيف تتخدم مليح تنجح …"
1-الهوية الضدية : يعني أنه لا يقدم نفسه بما يتميز به ، لكن يحدد ذاته بمن هو ضده ،( لم يفز النداء في الانتخابات سنة 2014 لانه قدم برامج وهوية واضحة بقدر ما كان ذلك لأنه وعد بأنه سيتصدى للنهضة، وبعدها توافق معها )