على إثر إعلان رئيس الحكومة المكلف تشكيل حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب، وعلى الرغم من تواصل الحديث عن إمكانية إدخال تحويرات جديدة على تركيبتها، رأيت من واجبي تقديم الملاحظات التالية في انسجام مع ما سبق أن صرّحت به قولا وكتابة منذ انطلاق المشاورات حول تشكيل الحكومة وما قلته مباشرة إلى السيد الحبيب الجملي عندما شرفني بدعوتي للالتقاء به.
كان من المنتظر أن يجد رئيس الحكومة المكلف وحركة النهضة الداعمة له صعوبات موضوعية خلال عملية تشكيل حكومة تعبّر عن النتائج التي أفرزتها الصناديق وتنسجم مع النفس الثوري الأغلبي ومطلب الناخبين في اتجاه القطع مع التوافق الرخو الذي أدى بالبلاد إلى حالة التعطل التي شملت جل القطاعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويرجع ذلك لأسباب عدّة لعلّ أبرزها المشهد السياسي الفسيفسائي والتشتت الذي طغى على تركيبة البرلمان مما أدى إلى صعوبة تشكيل حزام سياسي منسجم وأغلبية برلمانية مستقرة.
غير أن هذا العامل ليس المتسبب الوحيد في هذا الفشل، إذ أن غموض المنهجية المتبعة وبعض السلوكيات الغريبة عن أساليب التفاوض المعهودة وتوخّي نهج المزايدات التي لا طائل من ورائها والمطالب التعجيزية بالإضافة إلى نشر غسيل المفاوضات على المنابر الإعلامية، كلّها عوامل ساهمت بشكل مباشر في إعاقة سير عملية التفاوض ورفع منسوب انعدام الثقة بين الأطراف المعنية.
لا شك أن السيد الحبيب الجملي بذل جهدا مضنيا وقدم تنازلات هامة أثناء المفاوضات- وهذا يحسب له- ولا شك أنه لم يلق من بعض الأحزاب المعنية التجاوب الضروري – وهو أمر مؤسف جدّا- ولكن رغم كل المعوقات كان من الممكن أن تتوّج المفاوضات بتشكيل حكومة تمثل طيفا لا بأس به من الفائزين في الانتخابات لو تفادينا منهجية التعنت وليّ الذراع وغلّبنا المصلحة الوطنية على مصلحة الأحزاب.
وفي كل الحالات لا يمكن أن نقبل بان تكون الصعوبات عنصرا محددا وحجّة قاطعة تبرّر التنكّر للرسالة البيّنة التي أرسلها الشعب عبر انتخابات 2019.
قلتها وأكرّرها، كان من المفروض أن لا نعيد أخطاء الماضي وأن نستخلص الدروس من تجربتي 2011 و2014.
في 2011 اختار الشعب الأحزاب التي صمدت ضد الاستبداد وكانت حركة النهضة أبرزها حيث تحصلت على أكبر عدد من النواب فكان من طبيعة الأشياء ومن باب احترام قواعد الديمقراطية أن تشكل حركة النهضة الحكومة. وكنّا في إطار المصلحة الوطنية، دعونا آنذاك العائلة التقدمية الديمقراطية إلى المشاركة بكثافة من منطلق تحمّل مسؤولية البناء الديمقراطي بدءا بوضع دستور الجمهورية الثانية والنأي بالبلاد عن التعطيلات والصعوبات التي لا تخلو منها أي مرحلة الانتقال الديمقراطي في أي بلد. ولكن الأنا الأكبر وعدم نكران الذات والاستعداء المفرط لحركة النهضة فوّتوا علينا الفرصة وقد كلّفنا ذلك ما كلّفنا ودفع كل الطّيف التقدمي ثمن الهروب من المسؤولية والمراهنة على فشل "الترويكا".
أمّا انتخابات 2014 فقد أفرزت أغلبية مغايرة في مناخ بلغ فيه الاستقطاب السياسي والشيطنة المتبادلة ذروتهما. وكان من المفروض وقد تجاوزت البلاد مرحلة التأسيس أن تنطلق الأغلبية المنتصرة في الإصلاحات الجوهرية التي يتطلّبها الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم، لكن مرّة أخرى طغت المصالح الحزبية لتكرّس توافقا رخوا كانت نتيجته الواضحة تداول حكومات تصريف أعمال على مدى خمس سنوات وتعطلا كاملا لوضع المؤسسات الدستورية ولإطلاق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية.
وها نحن بعد انتخابات 2019 نعيش أخطاء التجربتين السابقتين مندمجتين وكأنّ نخبتنا مكتوب عليها أن تراكم الفشل وأن لا تستخلص منه درسا. فترانا نضرب عرض الحائط بإرادة شعبنا وبالرسالة التي أرسلها عبر صناديق الاقتراع والمطالبة بإعادة قطار التغيير على سكّته. بل ينتهي بنا الأمر إلى طرح "حكومة الكفاءات المستقلة".
ماذا أصابنا؟ وكيف وصلنا إلى هذا الحدّ من الاستخفاف بأبسط قواعد التسيير الديمقراطي؟ ولماذا الانتخابات وما جدواها؟
إنها كما سلف وكتبت، فرصة تاريخية للتدارك وتجنّب أخطاء الماضي. ولكن عوض أن نكون في مستوى اللحظة، أضعنا قرابة الشهرين في الصراع على المواقع ونسينا أولوية انتظارات شعبنا الحارقة، فلا حديث عن البرنامج ولا نقاش حول المشاكل القائمة وما تستوجبه من حلول.
بالرجوع إلى الأصل و بعيدا عن التقييم المملّ للشخصيات والكفاءات ومدى "استقلاليتها" عن الأحزاب، فإن الدستور يعطي للحزب الفائز في الانتخابات الحق في اختيار الشخصية المكلّفة بتشكيل الحكومة وان فشلت هذه الشخصية – وهذا ليس كارثة- فيُحتمل أن يكون سبب الفشل أيضا في الاختيارات وربما في المنهجية و في إدارة التفاوض، فالمفاوضات سجال وأخذ وردّ وتنازل في بعض الحالات وتلك هي قاعدة الديمقراطية والحوار وتلك هي مصاعب التعددية الحزبية والسياسية، ولا يمكن أن نعوّض الصراع الأهمّ حول أهداف الثورة ومشروع البناء الديمقراطي وإصلاح النموذج التنموي بمجرّد سعي محموم وبسيط للحصول على 109 من أصوات النواب دون اعتبار لخياراتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية و مدى انسجامهم مع مشروع التغيير المنشود.
إنّ البحث عن أوسع توافق ينذر بنفس الشّلل الذي قاست من ويلاته البلاد في السنوات الخمس الفارطة.أمّا ما عشناه من ركض وراء الأغلبيّات العدديّـــة (arithmétique) فهو إعـــادة إخراج سيّء لسيناريـــو 2014-2019 وكلّنا نعلم أنّها أغلبيّات شكليّة ورخوة لن تصمد أمام المتغيّرات السياسيّة فضلا عن أنّها لن تسمح بتحقيق الاستقرار السياسيّ الضروريّ للانطلاق عاجلا في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الجوهرية. ثمّ ما هو مآل البناء الديمقراطي، هل أصبحت مسألة تركيز المؤسسات الدستورية وفي مقدّمتها المحكمة الدستورية التي تعتبر عماد الديمقراطية من الماضي البعيد؟
علينا أن نعلم أن "حكومة الكفاءات المستقلة"، ستكون فاقدة للشرعية السياسية : فحالما تهب العاصفة الأولى لن تجد من يستميت في الدفاع عنها أو على الأقل يتبناها، حكومة فاقدة للانسجام، ستعمل في مناخ تسوده الريبة ولن تكون لها رؤى أو مشروعا. وفي الخلاصة، وفي أفضل الحالات سيؤول بنا الأمر مرّة أخرى إلى حكومة تصريف أعمال…أحذّر مسبقا من تبعاتها.
هل بقي ما يسمح من الزمن - دستوريا- للتدارك؟ أليس الوطن قبل الأحزاب؟ أثبتوا ذلك إن كنتم صادقين!