في الإبداع، يدل القول الأدبيّ على جدواه ويؤكد على متعته العميقة دون إفراطٍ في الكلام. لأن هذه المتعة العميقة تأتيك خاطفة وريانة، لا يفسدها بطءٌ أو استرخاء، فهي ملمومة، كثيفة، متوهجة، تشقّ طريقها في غمرة هواء الكون دون عثرات، أو عراقيل.
والقول الشعريّ لا ترتفع به إلّا خفته الرشيقة المرعِـدة إلى حيث تتلقّفه مدياته البعيدة وإيماءاته البليغة المتوخاة. يحدث ذلك كخفقة الليل، وهي تمرّ خاطفةَ لا تكاد تحسّ. ومن دون هذه السرعة الوامضة المتراصّة لا تكون القصيدة أو الرواية، أو الإبداع عامة، إلاّ كلاما مترهلا، يعيد نفسه ولا يبعث فينا غير الملل وكدر النفس، ويظلّ بدايات لا تفلح في الوصول إلى نهاياتها الشيقة.
وكانت لفتة جميلة من الناقد سعيد يقطين حين أطلق تسمية “البدانة الروائية”،على تفشّي هذه الظاهرة في المجال الروائيّ، تسمية لا تخلو من طرافة ذكية، وقدرة كبيرة على التمدّد والانطباق على الكثير من أشكال القول وفنونه، شعرا ونثرا.
في الشعر مثلا، يذهب الكثير من الجهد الشعريّ مسرعا إلى مصيره من التضخم أو الانتفاخ الذي يخفي ما في القصيدة من لمعات، لم يحسن الشاعر استثمارها كما ينبغي، فجاءت ومضات متباعدة دون رابط عضويّ يشدّها إلى نسيج القول كله، ويحسن توظيفها في خدمة الدلالة وتناميها.
عشنا فترة أشبه ما تكون بالعمى الشعريّ، اختلط فيها على الكثيرين، من النقاد والشعراء على حدّ سواء، الفرق بين القصيدة الطويلة والقصيدة المطولة. ركام من الكلام الموزون والمقفّى، الذي لا يشده إلى بعضه إلّا التكلف والرغبة في التطويل.
ويبدو لي أن ذلك لا يعدو أن يكون واحدة من بقايا خرافة النفس الطويل، التي ورثناها من عصور الشعر العربيّ، والتي كانت تعدّ من معايير التفوق الشعريّ لدى هذا الشاعر أو ذاك. تستطيل القصيدة دون مسوغ داخليّ يستدعيها، ودون ضرورة فنية، تجعل النص، في حال غيابها، نصا مبتورا. أي مشروعا مخفقا منذ بداية الشوط.
وكما نجد رواية تطول دون مبرر، فإن هناك ديوانا أو قصيدة تقع في الإطار ذاته. أعني أنها تستطيل وتتضخم بمنأى عن متطلبات العمل الشعريّ بكليته، بدوافعه الدلالية، أو البنائية. بل بدافع التوهـم الذاهب إلى نتيجة زائفة، تربط بشكل آليّ وحتميّ بين حجم العمل وقيمته، وترى في كبر الحجم مجلبة لكبر القيمة.
في المشهد الشعري كثيرا ما نصادف قصيدة لا تعدو كونها ركاما من القول الشعريّ الذي يتمدّد دون ضابط، وكأنه فيض من هياج النفس، وانثيال اللغة، وتشهيات الجسد. يتدفق متدافعا، وبكثافة وجدانية آسرة. وما إن ينتهي هذا المناخ المتأجج حتى ينتابنا إحساس بالكدر أو عدم الراحة، لا يشبه الغضب الخفيف، أو الخيبة، أو عدم الارتواء. ها هي القصيدة تنتهي قبل أوانها، قبل أن تكمل دورتها أو قبل أن تقول ما تريد. وفي أحيان أخرى قد تجيء النهاية بطيئة أو متأخرة عن أوانها الذي يقترحه بناء النصّ أو دلالته. ويكاد البعض من شعرنا العربيّ أن يكون، كلاما يطول، ويتمدد، ويستدير على ذاته، دون أن يدرك نهايته الموفقة. استطالات من الكلام تفوق حاجة المعنى. شعر مولع بالإطالة التي تفرضها الرغبة في القول وتوليده، والدوران حول معناه. باروكات لغوية تفيض عند واعي القول الشعري، وتتجاوزها حتى لتقارب الوقوع في الثرثرة التي تجهز على كثافة القصيدة ونقائها.
أليس من حق القارئ أن يتساءل لماذا تطول القصيدة أو تقصر، وكيف، أو متى؟ لا صلة لذلك كله برغبة الشاعر المجردة في الكلام، فالشغف المحض بفضول القول وتوالده لا يجدي. القصيدة وحدها، أعني المكابدة الإنسانية والشعرية فيها، هي ما يقرر ذلك. لا بدّ من قدر محسوب بدقة لاعب الشطرنج، ودهائه الباعث للحياة في النقلة الضرورية. لا ضرورة لحركة زائدة، فهي كالجملة التي تحشر في شقّ لغويّ رغبة في إطالته، لا استجابة لنداءات الجمال أو ضغوط الدلالة.
علي جعفر العلاق:شاعر من العراق مقيم في الإمارات