لا بد لنا من وعي جديد.

Photo

لقد وُلد " التوافق السياسي" في ظروف سياسية أقل ما يقال فيها أنها كانت مشوبة بالضبابية والاضطراب، ما حتّم إعادة النظر في الفعل السياسي في تونس، وفي إعادة تعريف الشروط والأدوات الكفيلة بإقامة ديمقراطية حقيقية، والتخفيف قدر المستطاع من المخاطر المحدقة ذات العلاقة بعودة النظام الدكتاتوري والمافيوزي.

كانت الهواجس والمخاوف عديدة بعد نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية، خاصة وأنها كانت تؤشر إلى ضعف مزمن لأهم الأحزاب السياسية الديمقراطية التونسية، وغياب الحماسة لدى الناخبين في التصويت لها باستثناء حركة النهضة من ناحية، وقوة مالية وإعلامية ضاربة كان يتمتع بها الحزب الخارج من تلابيب النظام القديم، والذي مكّنه العمل الهائل الدؤوب على الإفساد بمساعدة اتحاد العمال واتحاد الأعراف، من الفوز في تلك الانتخابات.

ساهم هذا السيناريو – وقد أصبح ممكنا بفضل الصراعات الأيديولوجية والتحالفات المشبوهة – في فرملة المشروع الديمقراطي الثوري، في غياب القدرة على التحكم فيه أو إلغائه بالكلّية.

من هنا جاءت الحاجة إلى " بديل"

إذا ما حاولنا الفصل بين مختلف جوانب الأزمة الحالية، فإننا نخشى الضياع في تشعب ذلك الواقع وتعقيده. الصورة الجامعة تعيد تشكيل نفسها بنفسها حالما نرتدّ من خارجٍ إلى الداخل، للبحث عن أصل الانحطاط الذي نعيش، لأن مجرد الملاحظة لا يكفي. هو وضع ضاغط إذا ما اعتبرناه واقعا ضخما مفارقا لأسبابه، منفصلا تماما عن إرادة السياسيين والناس.

لعل بلوغ تونس ذلك الحدّ كان ضروريا لتستفيق من الغفلة. صحيح أيضا أن الإنسان إذا ما شارف الهاوية يمكن أن يعطي أفضل ما في جعبته. سيفرض الآن تجاوز ما عُرفَ عن نمط سلوكياتنا اليومية. ذاك ما يجعل التحدي ممتعا؛ فلأول مرة يجد التونسي نفسه في مواجهة الحاجة إلى القيام بقفزة نوعية. هو يملك القدرة الكامنة للقيام بذلك، ولكن المفارقة أن تلك القدرة تحتاج بلوغ القاع.

ولإيجاد الطاقة والذكاء المبدع اللازمين لمواجهة تحديات عصر مضطرب كتلك التي يعرفها عصرنا لا بد لنا من وعي جديد. وعي جديد لتونس جديدة. ولكن ذلك يتطلب لمعة نور تُولِّدُ رغبةً حقيقية في مستوى خطورة الرهانات. ذلك هو ما ينقص بلدنا، الذي اختار في الغالب الفتور، والتسرّع التافه، والمتعة العارضة، والسخرية. كم نحن سطحيون وتافهون.

نحن نفتقد إلى الوضوح وإلى الجدية، في حين أننا مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالانتباه وأن تكون أقدامنا ثابتة في الأرض، بأن نفتح أعيننا وأن نُدرك ما أصابنا. سيكون للتعليم هنا دورا رئيسيا. التعليم والثقافة. والاستشهاد التالي الذي نقتبسه من كتاب لأمين معلوف لا نروم به تزيين كلامنا، يعطي تماما التوجهات التي تشكل دور المثقف اليوم:

"أنْ تُغادر الفوضى التي تعمّ العالم من قمّتها فلا بدّ أن تتبنّى سُلّمًا من القيم قائما على الثقافة؛ بل يمكن القول قائما على الخلاص بالثقافة… أن تَحسَبَ الثقافة مجالا ضمن غيرها من المجالات، أو أداة لتزيين الحياة لدى لفئة من الناس، فأنت تُخطأ القرن، بل تخطأ الألفية. دور الثقافة اليوم أن تمدّ مُعاصرينا بالأدوات الفكرية والأخلاقية التي تمكّنهم من الإبقاء على الحياة. فحسب."

هذا الدور الأول الذي يجب على " المواطن" أن يلعبه: تفعيل كل البدائل لمنع كل محاولات إعادة النظام القديم، وهذه المهمة تتطلب تغييرا مرغوبا في العقليات.

ما الذي يجعل من " المواطنة" مصدر إزعاج

لقد حان الوقت لتجاوز خلافاتنا، واستعادة وحدتنا في مستوى الوسائل كما الغايات، وإدراك محدودية فضائنا ووحدة الإنسان مع الأرض. يقول ألبرت جاكار:

"لا بد لنا من محاولة تصور إنسانية أخرى قادرة على الأخذ بعين الاعتبار لحقيقتين دامغتين: الحاجة إلى إدارة جماعية وعقلانية للخيرات التي يقدمها لنا الكوكب، من جهة، والحاجة إلى لقاءات سلمية ومثمرة مع نظرائنا من جهة ثانية؛ تحاور البشرية كوكب الأرض من ناحية، ويتحاور البشر فيما بينهم من ناحية أخرى."

وإذا ما أردنا الذهاب إلى أصل الأشياء لا بد لنا من الاعتراف أن الكارثة الحقيقية للأزمات الرئيسية في تاريخ تونس هي تلك الواقعة في ساحة العقل البشري. وتستمد هذه أصولها من مسار ثابت من التفرقة لم نتوانى عن تدعيمه. انقسام بين التونسي والدولة، وصراع بين الجهات، والثقافات، والأيديولوجيات، صراعات سياسية، وبين المصالح الاقتصادية المتضاربة، والطبقات الاجتماعية، والأجيال، انشقاقات بين مراكز النفوذ، بل وفي الطبقة الاجتماعية نفسها، بين الرجل والمرأة، وفي صلب العائلات، صراع داخل الإنسان نفسه بين الفضاء العام والفضاء الخصوصي، بيني وبين الآخرين، بين الوعي واللاوعي …. الخ.

إن هذه الانقسامات التي أنتجها العقل تؤدي هي نفسها إلى اضطرابات تخلق عند تراكمها ساحة خصبة للأزمة الدائمة. لا نستطيع الامتناع عن دفع الاستقصاء إلى الميدان البسيكولوجي، وفي نفس الوقت التظاهر بعدم أخذ ذلك الجانب بعين الاعتبار. ففي سياق الأزمات يصبح استعمالنا الخبيث للفكر في صيغة الانشقاقات الدائمة هو موضع الإدانة، لأنه يقضي على كل إدراك شامل، ويُعطي رؤية متشظية للعالم.

لا بد للــ"مواطن" أن يهتم بهذه المسألة وبغيرها. ولا بد أن نستكشف عمق هذه المسارات داخل عقلنا نفسه. أن نجعلها قضيتنا، دون أن نحاول القفز على تلك المرحلة للإسراع بتبنّي حلول فنية مع هذا النظام أو ذاك (سيكون ذلك خطأ في الأولويات العاجلة وفي طرائق العمل، أي سنبقى أسيري البراديغم السياسوي، والإطار المتصلب القديم للأحزاب السياسية). يجب علينا البحث من أين تأتي حالة العطالة، وتداعيات عقل التقسيم، يجب علينا النظر إلى جنونه والمخاطر القصوى التي يدفعنا نحوها. إن الإدراك الصحيح للخطر هو ذاك الذي يجعلنا نتجنبه. والتثبت بعمق فيما تُخلّفه التفرقة التي يسببها العقل يجعل من الحاجة إلى ثورة نفسية في وعي التونسي مسألة بديهية.

طبعا لا يعني ذلك إنكار المبادرات الجماعية الملموسة ، بل تعطيها توجها جديدا. وهو ما يعني توجها أكثر جذرية من الثورة العنيفة بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكنها ثورة من نوع آخر. "نعم يجب علينا التحرك جماعيا، لأننا في حاجة ضرورية إلى تغييرات كبيرة، ولكن ثورة بسيكولوجية عميقة هي الأكثر إلحاحا وليس ثورة تُلقى فيها القنابل ويُقتلُ فيها آلاف الناس باسم النظام أو باسم المجتمع الجديد أو السلام. إن الحاجة إلى ثورة نفسية عميقة بهذا الحجم ليست عقيدة دغمائية للمخاطِب؛ هي ضرورة حيوية. تؤكدها المشاهدة."

ما هي أسباب كل تلك الانقسامات ؟ "المصلحة الخاصة هي أصل كل مسارات الانقسام، أي مسالك الفساد. وهو السبب في كل الصراعات." المصلحة االشخصية تعني بالطبيعة مصلحتي الضيّقة، على حساب كل الآخرين؛ وهي تعني أيضا المصلحة المشتركة لمنظمة ما تدافع عنها في مواجهة الآخرين. وإذا ما تبيّنا هذا المبدأ يصبح من اليسير علينا تتبع فعله حيثما كان. إن العبادة الخالصة للمصلحة الشخصية هو ما يكمن وراء فردانية الاستهلاك الجماهيري، والصلَفُ الظاهر للاستهلاك المفرط".

وهي من تعبّر عن نفسها في الاستغلال المفحش لخيرات الأرض، دون أي شعور بالمسؤولية تجاه الأضرار التي تلحقها بالحياة في مُجملها. وبالتغذية الحصرية للمصلحة الشخصية نساهم في تفاقم الظلم في العالم، مع إهمال كلي لمصير المنبوذين. وهي المتسبب في الجشع الربحي بكل أصنافه، وفي أطماع البعض وسكوت الآخرين المبطّن بالرغبة. وهي أيضا تلك التي تتوارى وراء كل محاولات التفرقة بين الأديان والأيديولوجيات. كلما هيمنت المصلحة الشخصية، كُلّما وجدت قابعا وراءها عمًى كلّيًا عن المصلحة العامة: هي مصلحتي (مصلحتنا) ضد مصلحتك (مصلحتكم).

وعندما تتفاقم مصلحتي، تضيع الوَحدة ويتلاشى التضامن الإنساني، ويعمُّ الفساد؛ تصبح الأزمة عامة لأن المجتمع اعتلّ.

وفي جذور المشاكل التي يجب على التونسي اليوم مواجهتها نجد العمَى النفسي والإدراك المغلوط، ما يعني تضييعًا كليا للتوحد ولقيمة العلاقات. وفي اللحظة التي يكون فيها الوعي بالتوحّد حاضرا، متوقّدا نابضا بالحياة، يصبح الفكر والقول والعمل في خدمة الحياة. وفي اللحظة التي تتّقد فيها قيمة العلاقة، يكون الحب حاضرا في كل حركة، ويصبح الحرص على تقديم العون للآخرين وتفادي جَرْح مشاعرهم تلقائية تماما. عندما يكون القلب حساسا، ويكون في تواصل مستمر مع ما هو عليه، يعبّر تلقائيا عما بداخله بكل محبة.

لا يعني ذلك التصدي لرسم قواعد، أو فرض أخلاق معينة، أو قوانين أو مبادئ. إن تغيير الوعي من حالة الانقسام والتمركز الحصري حول المصلحة الشخصية، والتدرج به نحو وعي الاتّحاد، المنفتح بشكل واسع ولا شخصي، يُعدّلُ الإدراك بشكل كلي. وإذا كان بالإمكان إنقاذ تونس بعدُ، فلا مناص من أن يمرّ ذلك بتغيير الوعي، وهو ما يستلزم التقاء القلب مع الذكاء، وليس العقل المستعمَل عادة، فهو الذي سرّع بالأزمة الحالية. إن عقلاً تعوّد على الحساب، ماكرٌ، قاطعٌ، موَجَّهٌ للمقارنة والبحث عن ربحه، حريص على التقسيم والمعارضة هل هو حقا ذكيٌ ؟ كلا. فالعقل الذي انحرف نحو الشِقاق حَكَمَ على نفسه بالسجن في شهوة الرؤى الضيقة، وهو عاجز بالضرورة عن النظرة الشاملة. أما الذكاء الفعلي فهو ذاك الذي يصلُ ولا يُفرّق، والقلب لا يُجانب الذكاء أبدا عندما يكون منتبها، لأن من طبعه الوصل. وحتى نجد الطاقة والذكاء الضروريين للخروج من المستنقع الحالي، لا بد من الذهاب أبعد من العقل المفرّق.

أضف إلى ذلك النزعات الطائفية والشوفينية والانكفاء على الذات. إن توجه الشعوب التي تتوفر على هوية ثقافية قوية إلى السعي لإقامة بنية سياسية، يؤدّي إلى تشكيل هويات جماعية على حساب هوية أرحب، الهوية الكونية. ولا يعدو ذلك كونه خميرة انقسام تزيد من تذكية الأزمات الجغراسياسية القائمة. وقد رأينا كيف أن الأنا الجماعية، كما الأنا الذاتية، يزداد شعورها بالقوة كلما واجهت عدوا.

تحتاج المصلحة الخاصة إلى إيجاد عدوها (الإسلامي؛ الماركسي أو القومي) لتستمتع بوجود مستقل وللتلويح بالاختلاف. لا بد من خلق الــ"نحن" في مقابل الــ"هُمْ"، ما يسمح بتقوية معنى الأنا المتضخمة. ما فائدة الذوات البشرية المحشورة بين قوسين : "نحن" و "هم"؛ لم يعودوا بشرًا، إنهم مجرد فئات: إسلاميون؛ زنادقة؛ حداثيون؛ أغنياء وفقراء؛ عربٌ ويهود؛ ساحلي وصفاقسي …الخ.

عندما نتوقف عن رؤية الذات البشرية للاستعاضة عنها بالمفهوم، وعندما تأمر الدولة بالقتل والقمع والتفرقة يصبح العمى كافٍ لنسارع بالضغط على الزناد. لم يعد الأمر يتعلق بقتل ذات بشرية بل بالقضاء على عدو. ولا مجال للشك – في فترات الأزمة حيث ترتفع التوترات بشكل ملحوظ، ويحافَظُ على الخوف بشكل دائم – في أنه تكفينا مجرد تعيين العدو حتى ينطلق العنف من قمقمه. لا يُركّزُ المتعطشون دوما إلى الدماء على ما يشترك فيه البشر، وعلى وحدتهم بالأرض، بل على اختلافاتهم، وبالتالي على التناقضات الجوهرية التي تعرفها ثقافاتهم.

"الآخر" في مواجهة "الأنا"، تفتح الطريق سالكةً أمام بلورة الضحية، الطريقة الأكثر بدائية التي وجدتها البشرية لحل خلافاتها. وفي أتون الأزمة التي نمر بها اليوم، ليست المشكلة في تعدد الثقافات والآراء، بل في السعي الدائب لتقسيم تونس ضد نفسها. إذ كلما أذكينا التناقضات بين التونسيين كلما زدنا من تخريب قيمهم، كلما أنهكنا ما صنع عظَمتهم، وكلما دفعنا بهم إلى السقوط في البربرية.

وفي إشارة للوضع الحالي، وفي علاقة بالصراع بين الغرب والإسلام، كان أمين معلوف شديد الوضوح، عندما قال:

"بلغت تلك الحضارات الجليلة مداها؛ هي لم تعد قادرة إلا على توفير التوترات المدمّرة لهذا العالم، لقد أفلست أخلاقيا، وهي ككل الحضارات المميزة التي لا تزال تقسّم العالم، والتي حان الوقت لتجاوزها. فإمّا أن نتمكن في هذا القرن من بناء حضارة مشتركة يمكن لكل فرد أن يجد نفسه فيها، متماسكة بنفس القيم الكونية، مسترشدة بإيمان صلب بالمغامرة الإنسانية، ثرية بكل ثقافاتنا المتعددة، أو أننا سنغرق سويًا في البربرية".

اليوم، وقد تحولت الأزمة المالية العالمية إلى أزمة إقتصادية، وتحولت هذه الأخيرة إلى أزمة اجتماعية خانقة، لم يعد يمنع تناقضاتنا الداخلية من التعبير عن نفسها. بدأ البراديغم التقليدي ينهار في كل جوانبه. ولم يعد ممكنا اللجوء إلى رفض كل الأزمات، عبر تحويل آمالنا في مستقبل أفضل يكون امتدادا لحاضرنا، إلى فكرة. عندما تصبح الأزمة ظاهرة عامة، يستحيل أمامنا كل أمل في الهروب إلى الأيديولوجيا.

إن الحاجة ملحة في التغيير الفوري. لم تعد الأولوية في جدول الأعمال استعادة النظام فقط، بل تغييره.

وإذا نجح "المواطن" في تعبئة كل الطاقات الخيرة، سيكون حتما ابنًا لهذه الثورة؛ أما إذا فشل في ذلك نتيجة لكل العوائق التي رأيناها، فسيكون مع الأسف جهيضها.

لنكن واضحين ومتفائلين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات