عن الوحوش التي هزمتنا

Photo

كانت حكاية هي أسخف من أن تروى. حين يتم اعتقال شخص ومصادرة حريته وإذلاله وصولا إلى تصفيته جسديا بسبب أفكاره، فإن ذلك يعد فعلا إجراميا هو في غاية الانحطاط والوحشية التي تعيد الإنسانية إلى عصور محاكم التفتيش.

لقد عبدت جمهورياتنا الزاهرة طريق ظفرها بأجساد بشر أبرياء، لم تكن جريمتهم سوى أنهم كانوا يفكرون بطريقتهم الخاصة وبأسلوبهم المستقل. حدث هذا في النصف الثاني من القرن العشرين بما لا يمكن اعتباره إرثا عثمانيا. اليساريون، التقدميون، الوطنيون ذبحوا سواهم من اليساريين، التقدميين، الوطنيين.

مَن يلتفت إلى تاريخنا السياسي المعاصر لا بد أن يشعر بالخزي، فهو عبارة عن مجموعة متلاحقة من المجازر التي كان بشر أبرياء مادتها، من غير أن يكون هناك هدف يمكنه أن يبرر أو يفسر وقوعها.

لذلك لم تُبْنَ الأوطان. بل إن ما كان مبنيا منها قد تهدم واختفى. فالوحشية التي تعاملت من خلالها الأنظمة السياسية مع من قُدّرَ له أن يقع في قبضتها من البشر دمرت كل القيم الإنسانية والأخلاقية، ومن ضمنها القيم الوطنية.

لقد دمرت السجون الجزء الأكبر من آدميتنا. وكان استقواء بعضنا بالسلطة على البعض الآخر مبعث سخرية وألم، في الوقت الذي تركنا فيه الحقد يتمدد بكل ما ينطوي عليه من رغبة في الانتقام. كلما سقطت جمهورية صار مريدوها حطبا للانتقام الذي يذكر بوحشيتنا. كنا ولا نزال وحوشا صغيرة في مواجهة أوطان، لم نكن أهلا لبنائها.

لا تبنى الأوطان على أيدي قطاع الطرق، منقطعي الصلة بالضمير والشرف الوطنيين، سارقي حق الآخر في الحرية والتفكير المستقل والبقاء. لقد أفسدتنا السلطة التي أفسدناها بطريقتنا في الاحتيال على السياسة. ما فعلناه بالسياسة هو في حد ذاته جريمة نستحق بسببها أن نعاقب قانونيا.

لنتذكر خطابات جمال عبدالناصر ومعمر القذافي وصدام حسين وياسر عرفات وأنور السادات وجعفر النميري. هل هناك شيء من لغة السياسة فيها؟ كانت تلك الخطابات، في أحسن حالاتها، محاولة لتبرير غرور السلطة والتمسك بها ومحاربة الآخرين من خلالها.

كل هذا الإرث الرديء كان بمثابة قاعدة اجتماعية ساعدت أصحاب الخطاب الديني المتشدد على القبض على المجتمعات العربية، وهي في لحظة خواء سياسي تام. لذلك ليس صحيحا ما يقال من أن تدين تلك المجتمعات كان يقف وراء صعود الإسلامويين إلى السلطة وتمكنهم من السيطرة على المجتمعات. كان السبب الحقيقي يكمن في الجهل السياسي؛ فالعرب لم يعرفوا من السياسة سوى جانبها الحزبي وهو جانب أعادت الميليشيات الدينية إنتاجه بطريقة متقنة.

أما مفهوم الزعامة فإنه هو الآخر لم يتغير. لقد استبدلت الصور وحدها، في الوقت الذي بقيت فيه عصمة الزعيم عن الخطأ فوق كل اعتبار وطني. وهو ما يعني منح ذلك الزعيم الحق المطلق في أن يخطئ متنقلا بالشعب بين فصول الكارثة.

الحرب على الآخرين هي خلاصة ما انتهينا إليه من فهم للسياسة. لا فرق في ذلك بين متدين صعد إلى السلطة مستغلا خوف الآخرين من الآخرة، وعسكري ارتقى السلم إلى السلطة بدبابة، ممعنا في إذلال الناس بمتاع الدنيا.

لقد مهد تاريخنا في العنف السياسي بكل آلياته التي دمرت مفاهيم الوطن والمواطنة والحق في الاختلاف وصادرت الحريات بكل أنواعها وانتهكت كرامة الإنسان وقيدت قدرته على التفكير بشروطها، لصعود تيارات الإسلام السياسي، باعتبارها زبدة فهمنا لمسألة بناء الدولة التي لم نستوعب شروط قيامها في ظل سيطرة روح الإقطاع والاستبداد والزعامة التاريخية على تفكيرنا السياسي. كل هذا يقع ولا يزال هناك من يتحدث عن فشل النخب السياسية، كما لو أن الطارئين الذين قفزوا إلى السلطة عن طريق جهلنا صاروا يشكلون فعلا نخبا سياسية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات