أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي منذ أيّام مناشير متتابعة تتعلّق بالانتداب، وقد كانت الخطط المطروحة في مجملها مخيّبة لآمال الباحثين عموما، نذكر منها اختصاصي الحضارة العربية والتاريخ المعاصر، إذ بدت الرغبة في التقشّف واضحة في عدد الخطط إلى حدّ العدم. ولنا على كلّ هذا ملاحظات:
1- لا ترتفع دعوى التقشّف والتذكير بالوضع الاقتصادي للبلاد إلاّ متى تعلّق الأمر بالتعليم عموما، والتعليم العالي منه على وجه الخصوص. والحال أن الحكومة لا تبذل أيّ جهد في غير هذا القطاع ينبئ عن رغبة في الضغط على المصاريف العموميّة والرواتب، ولا أدلّ على ذلك من الإنفاق حدّ السّفه على السيارات الإداريّة ووصولات البنزين والسكن الوظيفي والمنح الخيالية الوهميّة "لكبار الموظّفين" ونواب مجلس النواب… وسائر الوظائف التي لا يقوم أصحابها سوى بقراءة الصّحف وترشّف أكواب القهوة… والتعويضات للإرهابيين.. وكل ما بات معروفا لدى الخاصّ والعامّ.
2- أظهر جدول الخطط عن عدم التزام الوزارة بما تمّ الاتفاق عليه مع النقابة العامة للتعليم العالي، إذ طرحت 364 خطة والحال أنّ العدد المتفق عليه هو 400 بالرغم من أنّ طلب النقابة الأصلي الذي انبي على حاجيات المؤسسات المختلفة وطلباتها كان ضعف هذا العدد (800).
3- كشف المنشور الوزاري سوء تقدير فاضح في بعض الخطط، من ذلك مثلا أنّها طرحت ست (6) خطط في رتبة أستاذ مساعد في اختصاص اللغة عربيّة، ومهندسو المنشور يعرفون أن هذا العدد غير موجود بتاتا لأنّ من ناقش هذه السنة على حدّ علمنا في اختصاص اللغة هو واحد فقط وأن لجنة الانتداب في السنة الفائتة لم تقبل إلاّ ثلاث خطط رغم أنّ العدد المطلوب هو أربع.
4- بدا، مقارنة بالنقطة السابقة، أن الوزارة تحابي اختصاصات بعينها على حساب اختصاصات أخرى، وهو أمر في غاية الخطورة لأنّه يوحي بحضور توجّه إيديولوجي لا يمتّ لحاجيات المؤسسات ولا بطلباتها بصلة، وإلا ما معنى أن تطلب المؤسسة خطّة في كلّ من الاختصاصات الثلاثة في العربية (اللغة والحضارة والأدب) فتكتفي الوزارة بخطة واحدة في اختصاص بعينه هو الاختصاص الذي نال عموما نصيب كلّ الوحوش وليس نصيب الأسد فقط.
5- تتأكّد الملاحظة السّابقة بالمقارنة بين ما طرح من خطط في المؤسسات المختلفة، ومنه أنّ مؤسسة الزيتونة لا تشترط الاختصاص في ما عرضته من خطط، في حين أنّ ذلك كان شرطا لازما في مؤسسات أخرى، فضلا عن كون عدد الخطط في تلك المؤسّسة موضوع المحاباة يتجاوز كلّ المؤسسات، كما لو كانتا تنتميان إلى دولتين مختلفتين (قارن جميع المؤسسات بكلية الشريعة…)؟
6- يتأكّد من الملاحظات السّابقة أنّ هناك استهدافا ذا دوافع إيديولوجيّة. ولنكن أكثر وضوحا: إن استبعاد اختصاص الحضارة استبعادا تامّا يدلّ على رغبة في القضاء على كلّ فكر يقوم على النقد والتفكير من أجل "التمكين" للفكر التقليدي التسليمي، خصوصا حين نرى الحملات التشويهيّة لأساتذة الحضارة وتهديدهم بالتصفية ومحاصرتهم إلى حدّ نشر اسم أحدهم في قائمة "رسميّة" للمطلوب قتلهم من قبل الإرهاب. وما ذاك إلا لأنّ أساتذة الحضارة يزعجون الوعي المتكلّس المتخلّف، ويسائلون التّراث عن علم وبصيرة، ويكشفون ما تمّ بتره وتناسيه واستبعاده والتستّر عليه.
تأسيسا على ما تقدّم، فإنّ الحكمة تقتضي تغيير هذا المنكر، ورفع هذا الحيف. ولن تعجز الوزارة عن معرفة الطرق المناسبة لذلك. وفي انتظار العودة إلى الرّشد، ليعلم المسؤولون والمحرّضون من وراء السّتار على اختصاص الحضارة أنّ المعنيين بهذا الاختصاص لن يسكتوا، وسيعتبرون ما حدث قضيّة يتلبّس فيها الشخصي بالوطني، والمهني بالسياسي، والفكري بالبؤس الإيديولوجي.