الاقتصاد التونسي بين الوعود والطموحات والعقبات المزمنة

Photo

للوهلة الأولى يبدو طريق تونس معبدا وواضحا نحو تحقيق طفرة اقتصادية كبيرة، لكنها تبدو بحاجة إلى مكاشفة صريحة والتوقف عن المكابرة وتجاهل مفاصل الأزمات المزمنة، لكي تبدأ بالتعامل معها بروح واقعية. أبرز المزايا الإيجابية هي خروج تونس الفريد من مرحلة التحول الديمقراطي إلى درجة كبيرة من الاستقرار السياسي، الذي يعد العنصر الأساسي لتعزيز ثقة المستثمرين المحليين والأجانب.

كما يرتبط بتلك الميزة، وجود إرادة سياسية دولية مستعدة لتقديم الدعم لإنجاح التجربة التونسية الفريدة في الخروج من الاضطرابات السياسية التي عصفت بعدد كبير من بلدان الشرق الأوسط. ويأتي الدعم حاليا بشكل أساسي من الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي. وتبدو آفاق الاقتصاد التونسي اليوم أكثر وضوحا من أي وقت مضى، بعد أن انقشع الكثير من الغموض، الذي هو العدو الأكبر لمناخ الاستثمار، في وقت لا يزال ذلك الغموض يحاصر البلدان المجاورة مثل ليبيا والجزائر ومصر ومعظم البلدان الأفريقية.

لكن على صناع القرار في تونس تقليب الملفات بواقعية شديدة لمعرفة الحجم الطبيعي للمزايا التي يمكن أن تجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية وعدم الاكتفاء بالشعارات والتعويل على الدعم السياسي الدولي، الذي تصعب أحيانا ترجمته إلى مشاريع. ويجمع المراقبون والكثير من التونسيين على وجود مشاكل كبيرة تمتد من البيروقراطية الإدارية المتعالية وتفاقم الروح المطلبية غير الواقعية بين قطاعات واسعة من التونسيين منذ ثورة يناير 2011 بسبب الأحلام الكبيرة والإحباطات الأكبر التي واجهتها.

وقد اتضح ذلك في الاعتصامات والاحتجاجات التي شلت القطاعات الإنتاجية القليلة، التي تملكها تونس مثل إنتاج الفوسفات، والتي فاقمتها القوة المفرطة لنقابات العمال، التي تفوق مثيلاتها في الكثير من البلدان الأوروبية. من الواضح أن النقابات تملك أحد أكبر مفاتيح سجن الاقتصاد التونسي، وتعتمد عليها فرص نجاح وفشل التنمية الاقتصادية المنتظرة، ولذلك ينبغي عليها أن تضع مصالح البلاد أولا، وأن تخرج من قفص العقلية المطلبية الراسخة، لكي تسمح بطمأنة المستثمرين المحليين والأجانب.

على اتحاد الشغل ونقابات العمال الأخرى أن تتوقف عن اللجوء إلى فرض مواقفها بالقوة، كما حصل في السنوات الماضية، حين كانت تختار توقيتات حرجة للتصعيد وطرح القضايا التي تزيد التوتر بين العمال والحكومة. وهناك مشاكل اقتصادية لا تقتصر على تهالك البنية التحتية أو انعدامها في 15 محافظة تقريبا، من بينها عدم وجود وسائل نقل حديثة، إضافة إلى تجذر البيروقراطية والفساد في مفاصل الدولة، ولو بدرجة تقل عن الكثير من بلدان المنطقة.

ورغم أن الحكومة قامت ببعض الإصلاحات في النظام البنكي ووعدت بإجراء المزيد منها، لضمان حرية نقل الأموال بين الداخل والخارج، إلا أنها لا تزال تحتاج الكثير لتسهيل العمل المصرفي الذي يعد مفتاح النشاط الاقتصادي. على تونس أن تواجه حقائق الواقع الاقتصادي والكف عن إلقاء اللوم هنا وهناك. عليها إجراء إحصاء واقعي بما تملكه البلاد من مقومات وفرص اقتصادية تملك ما يكفي من المزايا التنافسية. ينبغي على التونسيين أن يدركوا أن الانتعاش الاقتصادي ليس حقا طبيعيا وحتميا، وأن مقومات بلادهم، تواجه منافسة كبيرة من دول أخرى لاستقطاب ذات المشاريع التي يطمحون إليها، وخاصة المغرب، الذي يوفر استقرارا سياسيا واقتصاديا يستند إلى تشريعات واضحة.

على الحكومة التونسية أن تدرس بعناية التجربة المغربية، لأن المقومات الطبيعية والبشرية بل وحتى الثقافية متقاربة إلى حد بعيد. وقد تمكن المغرب من خلال العمل الدؤوب على تحسين التشريعات ومناخ الاستثمار الذي يوضح الحقوق والواجبات، من طمأنة المستثمرين الأجانب. كما ينبغي أن تدرك أن المستثمرين لن يختاروا المكان الذي يضعون فيه أموالهم استنادا إلى العواطف والأهداف السياسية، بل إلى الأسس الواضحة والصريحة لمناخ الاستثمار، الذي يوفر لهم أقصى العوائد.

ويبدو من المستبعد أن يضع المستثمر الأجنبي أمواله في مشروعات في المحافظات الفقيرة مثل القصرين أو سيدي بوزيد، بسبب عدم وجود طرق جيدة تربطها بالموانئ لتصدير ما ينتجه. ولعل أكبر إشارة ترحيب أطلقتها تونس قبل يومين على بدء أعمال مؤتمر “تونس 2020″ هي إطلاق أعمال المرفأ المالي، باستثمارات تصل إلى 3 مليارات دولار، وعليها استثمار هذا المشروع في تعزيز زخم ثقة المستثمرين الأجانب، خاصة أنه يتم باستثمارات خليجية.

معادلة تحقيق النهضة الاقتصادية في البلدان النامية تبدو سهلة للغاية، وهي لا تتطلب سوى توفير الاطمئنان للمستثمرين من خلال تشريعات سياسية واقتصادية ومالية صريحة. هناك اليوم عشرات تريليونات الدولارات التي تبحث عن مناخ مستقر ومطمئن للاستثمار، في ظل تباطؤ نمو الدول المتقدمة وتراجع أسعار الفائدة إلى المناطق السلبية.

من الواضح أن العوامل الإيجابية في تونس تفوق كثيرا العوامل السلبية، وتبدو الحكومة الحالية بكفاءاتها الشابة عازمة على تذليل العقبات، بعد تشريع قانون للاستثمار بمواصفات عالمية، لكنها تحتاج للانتقال إلى العمل على أرض الواقع. وقد عبر عدد كبير من المستثمرين وخبراء الاستثمار في الأسابيع الماضية، عن ثقتهم بأن اقتصاد تونس يتجه إلى الانتعاش المؤكد في ظل المقومات البشرية الكبيرة والمقومات الطبيعية والسياحية.

وتعد درجة الثقة باستقرار أي بلد، العامل الحاسم في جذب الاستثمارات إلى البلدان النامية. وقد شهدت جميع بلدان العالم، التي توفرت فيها عناصر الاستقرار نقلات نوعية في التنمية الاقتصادية. كل ما تحتاجه تونس الآن بعد تحقيق الاستقرار هو تعديل القوانين والتشريعات ووضع قواعد شفافة للاستثمار وممارسة النشاط الاقتصادي، من أجل طمأنة المستثمرين على مستقبل أموالهم.

من الصعب أن نجد دولة نامية، استكملت تلك المقومات دون أن تتمكن من إحداث ثورة اقتصادية سريعة. لن نتحدث هنا عما أنجزته الصين وسنغافورة والإمارات وماليزيا وكوريا الجنوبية والعديد من دول أميركا اللاتينية من معجزات اقتصادية يصعب أن نتخيلها قبل عقدين من الزمن. بل سنتحدث عن دول بدأت في السنوات الأخيرة تأخذ طريقها لتحقيق أعلى معدلات النمو في العالم بعد أن كانت تعاني من أعلى معدلات الفقر مثل غانا ونامبيا ورواندا وبوركينا فاسو وإثيوبيا وزيمبابوي، بعد أن كان بعضها يتلقى معونات الإغاثة بسبب تفشي المجاعة فيها.

القاسم المشترك بين تلك الدول هو الاستقرار السياسي وإرساء سيادة القانون وقواعد صريحة وشفافة للنشاط الاقتصادي تطمئن المستثمرين على مصير أموالهم. سبب الثقة الكبيرة في أن تونس تتجه حتما إلى ثورة اقتصادية هو أن هناك مئات تريليونات الدولارات من رؤوس الأموال العالمية التي تبحث عن فرص في الاقتصادات النامية لتحقق أرباحا، تفوق كثيرا ما يمكن تحقيقه في الدول المتقدمة التي تقتل المنافسة فيها هامش الربح بسبب فائض رؤوس الأموال المتنافسة.

فما أن يطمئن المستثمرون إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي في بلد من البلدان النامية، حتى تتدفق إليه الاستثمارات، بحثا عن فرص نمو لا يمكن مقارنتها بمثيلاتها في الدول المتقدمة. وتكاد مقومات الاستقرار في تونس تفوق جميع المقومات التي تملكها البلدان المذكورة، لأنها خرجت من أكبر امتحان تاريخي، ولم يعد هناك ما يمكن أن يهدد سيادة مؤسسات الدولة، وهو ما يعزز قدرة الحكومة على فرض الأمن والاستقرار ووضع قوانين صريحة وواضحة للنشاط الاقتصادي.

الأمر ينطبق على جميع البلدان العربية الأخرى من مصر إلى العراق وليبيا والجزائر وصولا إلى موريتانيا واليمن والسودان والصومال. ويعتمد حجم المعجزة الاقتصادية المتوقعة في تونس أو غيرها، على مدى متانة الاستقرار ووضوح القوانين الاقتصادية، ليحدد ذلك درجة اطمئنان المستثمرين على مستقبل أموالهم إن هم وضعوها في أي من تلك البلدان.

سيقول البعض إن تلك الأموال ستحقق أرباحا طائلة وتخرجها من البلد. والجواب هو أنها ستخلق أضعاف ذلك من الثروة وفرص العمل لتتمكن من جني الأرباح، حيث لا يوجد أي بلد متقدم لا يرحب بتدفق الاستثمارات بعد أن يضع شروطه وقوانينه الداخلية المتينة. ويمكن القول بثقة كبيرة أن اقتصاد تونس أصبح في مسار من اتجاه واحد، وسيشهد حتما ثورة انتعاش اقتصادي، تعتمد فقط على سرعة إجراء الإصلاحات الاقتصادية وفرض قواعد شفافة لممارسة النشاط الاقتصادي من قبل المستثمرين الأجانب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات