قد يصمد مقاتلو المعارضة المسلحة في ما تبقى من حلب المحاصرة لأيام، وربما لأسابيع. وربما تنهار خطوطهم بسرعة أكبر من المتوقع. ولن تتمكن المعارضة “التفاوضية” من إقناع الدول التي رعتها خلال السنوات الماضية من عمر الثورة، والتي طالما راهنت على تلك الدول، لن تتمكن من إقناع أي منها في إبداء أي موقف عملي يغير من اتجاه الأحداث في حلب. وبالمناسبة، فإن الموقف التركي الأخير يعد نموذجا لمواقف الدول الراعية لتلك المعارضة، حيث تراجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن موقفه بشأن بشار الأسد حتى لا يعكر صفو علاقاته بموسكو.
وفي هذه الأثناء، سوف تتواصل حملة التدمير الممنهج للمدينة وتستمر، وتتكرر المجازر بحق أبنائها تحت سمع وبصر العالم كله. وسيكون نصيب من ينجو من القتل من أبنائها كمصير الملايين من السوريين الذين تم تشريدهم في أربع جهات من الأرض لتتحول قضيتهم من قضية ثورة لإسقاط الاستبداد إلى قضية لاجئين، صحيح أن كل ذلك لن يطوي حكاية مدينة مع الثورة، ولن يعيد للعصابة الأسدية السيطرة الكاملة أو حتى المنقوصة على عموم البلاد السورية، ولن يمكن للاحتلالين الروسي والإيراني أن يتقاسما النصر والأرض بهدوء واطمئنان، باختصار أن ذلك لن ينهي الثورة السورية ولن يجعل من صيرورتها أثرا بعد عين، ولكنها ستتواصل بصور وأشكال مختلفة في حلب وفي غير حلب حتى إسقاط العصابة الأسدية وإزالة كل أشكال الاحتلالات التي تطأ اليوم أراضي سورية.
نعم! كلنا يشهد اليوم على التدمير الممنهج لمدينة طالما تغنى الناس بأمجادها وبعراقتها، وجميعنا يشاهد صور وأفلام المجازر بحق أبنائها حتى وهم يهمون بالخروج منها إلى لا مكان. فإذا كانت مصالح الدول والأنظمة والحكام تملي عليهم التعامي والتواطئ والمشاركة في ذبح المدينة، فماذا عن الشعوب؟ وماذا عن مدن العالم وأهلها؟ هل يراهنون بعدُ على طيبة وإنسانية وإخلاص حكامهم لهم؟
تتجمع اليوم مجموعة من العناصر التي تنذر بمستقبل قريب قاتم، ليس في سوريا وحدها، بل في الكثير من البلدان بما فيها مراكز الهيمنة الدولية التي تبدو عصية على الثورات، بدءا بأزمة نظام رأس المال ووصولا إلى تسلم اليمين المتطرف والعنصري مقاليد السلطة، إذ لم تعد سيطرة التطرف والاستئثار المافيوي والقوى العنصرية حكرا على الدول المخلفة، بل وصلت إلى واشنطن نفسها بعدما كانت عبرت الجهة المسيطرة في روسيا عن طبيعتها المازوشية في الحكم المافيوي والسلوك الإمبريالي الموتور. وإذا ما تعمم هذا النموذج في البلدان الأوروبية وتحكمت النزعة القومية الشوفينية والتمييز ضد المهاجرين والقوميات الأخرى، فإن ذلك سيمثل من قبل المنظومة الرأسمالية المسيطرة بحلتها المافيوية محاولة للهروب الى الأمام من أزمة هذا النظام التي تضرب في طبيعته وتشكله البنيوي، لكنها ستضاعف بشكل غير مسبوق من الضغوط على المجتمعات ودفع الملايين من أبنائها إلى التهميش والإفقار المدقع والتشرد.
هذه الأزمة البنيوية التي يعيشها نظام رأس المال العالمي اليوم تختلف تماما عمّا اعتاد عليه هذا النظام من أزمات دورية خلال شبابه، تلك الأزمات التي كانت في ما مضى تعبيرا عن فاعلية الاقتصاد المنتج (الحقيقي) في مقابل تباطئ الأسواق، في حين أن الأزمة الراهنة، التي تمادت منذ سنة 2008 والتي تجذرت وتواصل التعمّق رغم كل الادعاءات بالانفراجات الاقتصادية والمالية في الولايات المتحدة وغيرها من مراكز هذا النظام، تضرب في بنيته وطبيعة تكوينه.
فبعد الهيمنة الكاملة للاقتصاد الحقيقي (التشغيلي)، الصناعي تحديدا (والزراعي أيضا) حصل الالتحام بين الاقتصادين الحقيقي والنقدي (الريعي) ثم انقلبت الهيمنة تماما للأخير فآلت السيطرة إلى الطغم المالية التي باتت تتحكم بالإنتاج وتوزع مراكزه على البلدان وبطبيعة السلع المنتجة وبكمياتها بما يضمن لها السيطرة الدائمة والفعالية المطلقة والأرباح الكثيفة بعيدا عن الانشغال بالقضايا الاجتماعية والعمالية والنقابية وقضايا التوزيع والتنمية والبيئة.
وأصبحت البنوك والبيوتات المالية والتعاملات النقدية والبورصات والأسهم هي المجالات الاقتصادية الأكثر ديناميكية والأسرع في مراكمة الثروات لدى قلة تتقلص كل يوم لتتركز الثروة بيد مجموعة من الأشخاص يعدون على الأصابع، ما راكم المديونية على الدول وفرض التراجع عن مجمل تقديمات دولة الرعاية بما في ذلك حق الرعاية الصحية والاجتماعية للمواطنين.
هذه الأزمة المتفاقمة التي أرخت بظلالها بشدة على البلدان الطرفية وخصوصا العربية حيث باتت السيطرة لمافيات عائلية تبتلع الاقتصاد وتهمش المجتمع، أدت منذ أواخر 2010 إلى انتفاضات وثورات اجتماعية امتدت كالنار في الهشيم ووصلت أصداؤها إلى كبريات مدن العالم في الشرق وفي الغرب، ووجهت بشتى صنوف التحايل والقمع وصولا إلى الإبادة التي نراها اليوم في سوريا التي استجلب نظامها الدموي كل شذاذ الآفاق والمرتزقة في العالم لإدامة سيطرته، أو دعونا نقول: استغلت المنظومة الدولية دموية نظامها والميليشيات الطائفية المسعورة والمأجورة من أجل إسقاط الشعب بدل إسقاط النظام! وبالتالي فإن من يقاتل إلى جانب العصابة الأسدية إنما يقاتل بها دفاعا عن المنظومة الرأسمالية بحلتها المافيوية وعن سيطرتها في العالم كله.
هذه الأزمة وهذه الانتفاضات وما نشأ عنها وتراكم حولها، وخصوصا في سوريا وما نشأ عن القمع الدموي لثورتها من أزمة لاجئين كان لأوروبا منها نصيب وافر، وبعد تفشي الإرهاب الذي ضرب في قلب المدن الأوروبية، كل ذلك يدفع بقوى التطرف والعنصرية إلى السلطة في مراكز نظام رأس المال الرئيسية بدءا من واشنطن حيث فاز المرشح دونالد ترامب الشهير بمواقفه الصفيقة بمنصب الرئاسة. وصول هذه القوى اليمينية المتطرفة إلى السلطة سيضاعف بشكل متسارع من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية على المجتمعات المدينية في مختلف بلدان العالم ومنها مدن الغرب الرئيسية، ما سيؤدي حكما إلى انتفاضات وانفجارات شعبية.
إن الطريقة التي واجه بها النظام العالمي تحويل مدينة بحجم حلب إلى مقبرة لأبنائها، وسكوت شعوب العالم على ذلك، سيجعلان من مدينة حلب نموذجا يعممه النظام العالمي بقياداته اليمينية المتطرفة على مدن العالم في حال انتفضت نتيجة الضغوط التي نوهنا بها أعلاه. وسيصرخ أهالي شيكاغو وبوسطن وشنغهاي وليل وسان بطرسبورغ دون أن يجيبهم أحد: أحرقنا يوم أحرقت حلب!