كشفت وفرة القنوات السمعية بصرية و مواقع التواصل الاجتماعي بعد الثورة العقدة المركبة لدي العقل التونسي المهتم في علاقته بالشأن العام و بسعيه الى إدارة ذاته والتسويق لفكره ومواقفه وتسجيل حضوره وذلك من خلال التعامل المزدوج التمظهر بين صورة الواقع المعاش الذي يتفاعل فيه والصورة الافتراضية التي يريد بنائها أو عكسها للآخرين عبر شبكات علاقاته.
إذ بقدر ما يحاول هذا العقل الاقتراب أكثر ما يكون من عناصر الواقع الذي تربي عليه أو عرفه عليه الآخرون بالبينة والوقائع والتاريخ خشية أن يفضح أمره )الناس تعرف الناس) بقدر ما يحاول تجميل صورته وتنميقها والنفخ فيها في الفضاء الافتراضي من خلال اختلاق البطولات وتجميل الذات متخفيا وراء لوحة مفاتيح يدير بها مجموعة من التطبيقات المعلوماتية ويمرح من خلالها في ساحات تفاعلية ليست لها حدود مادية ولا ضوابط أخلاقية ولا اعتراف بالمحاذير القانونية في احترام الخصوصية وتقصي الحقيقة قبل نشر الإشاعة مما أنتج شكلا من الاسكيزوفرينيا الذي أحسنت توظيفه العقول الاستخباراتية والأجهزة التي تحترف اللعب بالعقول والأنفس وتاجرت به وكالات التسويق التجاري و السياسي للأثير و التوجيه السلوكي غير المنضبط حقيقة بالمحاذير الأخلاقية و القانونية .
و لعلنا قد بدانا نلامس انحسارا لأثر هذه الحالة الاسكيزوفرينيا أمام المبادرة التي يقوم بها اليوم قادة الرأي الأساسيين KEY OPINION LEADERS في الفضاء التواصلي العام عموما و مواقع التواصل الاجتماعي منه خصوصا. وليس أدل على ذلك الدور الذي قام به هولاء في إعادة ضبط البوصلة في قضايا هامة شغلت الراي العام وآخرها محاولة طمس معالم قضية إستشهاد المهندس محمد الزواري والسكوت عنها إعلاميا وسياسيا ورسميا.
وبالمناسبة نحتاج الى تدقيق أكثر تفاصيل حول مصطلح قادة الرأي و صفات من يود القيام به و التحديات التي تواجهه في معني الدفع نحو مزيد تأهيل و إعداد قادة رأي في المجتمع التونسي علنا نقدر على إعادة توجيه البوصلة.
يعتبر مصطلح قادة الرأي من المصطلحات الحديثة نسبيًا في المجال التداولي العربي، وإن كانت التمثلات الذهنية التي يحيل إليها اليوم غير موفقة في الغالب. إذ يتصور البعض أن المقصود بقادة الرأي هم أهل السياسة ورؤساء الأحزاب وغيرهم من المسؤولين الحكوميين. لكن في حقيقة الأمر، يمثل هؤلاء نموذجا واحدا فقط من نماذج قادة الرأي؛ حيث لا يرتبط المصطلح بالمجال السياسي، بقدر ما يعتبر مصطلحًا إعلاميًا بامتياز.
فهم في سياق تفسير المصطلح مجموعة من الأفراد الذين لهم تأثير على سلوك الآخرين نتيجةً لتميزهم من نواح مختلفة مثل: شخصيتهم، مهاراتهم، أو اطلاعهم على الشأن العام وغالباً ما يكونون أكثر استخداماً لوسائل الاتصال من غيرهم.
وتنتقل وتفسر المعلومات من خلالهم ويحملون بالضرورة قدرا من السمات والخصائص التي تجعلهم ذوي قدرة في التأثير في الأفراد، ومنشطين للفعل الاتصالي بنمطيه الشخصي والجماهيري، وقد اتخذت هذه السمات والخصائص أبعادًا متباينة في حالتها الواقعية والوظيفية.
و يمكن تحديد البعض من هذه المواصفات بكونهم:
- الأشخاص الذين يلجأ إليهم الآخرون لطلب النصيحة وللحصول على المعلومات.
- وهم أكثر من غيرهم التزاما بالمعايير والأعراف الاجتماعية السائدة في المجتمع أو التنظيم الاجتماعي،
- كما يتمثلون صفات القدوة، والمصداقية في التوجيه.
- وهم أكثر جودة وكفاءة فيما يتعلق بتغيير السلوك والمعتقدات والمواقف.
هذا ويواجه قادة الرأي مجموعة من التحديات العملية في واقع أدائهم لدورهم، يمكن تصنيفها في ثلاثة أنواع:
1) تحديات ترتبط بالمحافظة على مكانة القيادة، وتتجلى في جانبين: يرتبط الأول بصعوبة المواكبة في عالم وفرة الاتصال ورسائله وتعدد قنواته، مع قوة التمويه الإعلامي. أما الثاني فيتعلق بتحدي المصداقية الذي يرتبط بالجانب السلوكي لقائد الرأي من جهة، وبقدرته التفسيرية من جهة ثانية.
2) تحديات ترتبط بمجالات القيادة: وترتبط بدورها بالتحولات التي يعرفها الإعلام، وخصوصا صعود الإعلام الجديد، وقنوات الاتصال التفاعلي، فما هي صيغة قادة الرأي التي ستلائم الاتصال الاجتماعي، والإعلام الإلكتروني، والمدونات...؟ لما فيهما من إشكالات ضبط المحتوى، وثبات التوجه العام "للقناة"…
3) تحديات ترتبط بفعل القيادة: فأمام وفرة مصادر المعلومة، ومئات القنوات الإخبارية، التي تؤدي إلى إشباع الجمهور بالأخبار والمعلومات، هذا بالإضافة إلى تعدد البدائل واحترافية القنوات الإعلامية التي تملك قدرة كبيرة على صنع المصداقية، أصبح من الصعب على قادة الرأي المحافظة على قدرتهم الإقناعية، بل وعلى حاجة الآخرين إليهم أصلًا؛ مما يحتم عليهم العمل على تطوير قدراتهم التواصلية بشكل كبير.