القدس والغريبة

Photo

في مثل هذه الأيام، من السنة الماضية، كنت أتابع الأنباء في قناتنا الوطنية، كان الحدث الحج السنوي لليهود، من مختلف البقاع، إلى كنيس الغريبة، بجربة... وكان شاب جزائري بجانبي مندهشا من المشهد: يهود يغنون ويحتفلون وينشرون البهجة في أزقة الحارة، مشيدين بالوضع الأمني المستقر... كان صديقي غير مصدّق لما يراه... سألني في اندهاش: هل حقا كل هؤلاء يهود؟ فقلت له: نعم... فردّ بسرعة وعفوية: ولماذا لم تقتلوهم؟…

صعقني ردّ الشاب، ولم يفارق مخيلتي... فكرت ولا أزال أفكّر في الفكر الذي أنتج هذا التساءل... وفي التديّن الذي عبّر عنه الشاب بقتل كل اليهود... كنت ممزقا بين موقفين:

موقف عقلي، وفكري ونظري، يتماشى والقيم الديمقراطية والحقوقية، التي تفصل بين اليهود والصهاينة... بل وحتى موقف الكثير من علمائنا الذين طالما أثاروا فينا ذكريات العيش المشترك بيننا وبين أبناء العم: اليهود، وسط حارات في مدننا العربية والإسلامية...من إيران والعراق إلى تونس والجزائر والمغرب، مرورا بالشام ومصر...يهودنا الذين يحلفون بسيدي محرز ويقدسونه، يتقاسمون معنا نفس الأزقة في المدينة العربي... نذوق أطعمتهم، ويشاركوننا أعيادنا…

وموقف نفسي وراثي، تغذيه أحداث كثيرة من التاريخ والواقع... من حكايات غدرهم للرسول الأكرم، إلى دسائسهم في البلاطات المختلفة للدول المتعاقبة على شعوبنا.. إلى مجازرهم الوحشية في غزة ومكائدهم وفتنهم في القدس... موقف يعبر عن جوهره بكمية عظيمة من الحقد الذي يفيض عن القلب فيضا... حتى أننا مستعدين لنخسر إنسانيتنا، في سبيل الانتقام المتواصل منهم... باعتبارهم دينا وعرقا وجنسا ومواطنين ووو…

في الحقيقة، أجد نفسي ممزقا بين موقفين... لهما نفس الدرجة من الوثوقية والشرعية... نفس درجة الحجج والأدلة... أقف على برزخ من المشاعر الرمادية، وجه أبيض إلى الموقف العقلي الرصين، ووجه أسود إلى الشعور القابع في أعماقنا من أبد الآبدين...وهو مقام فيه ألم وحيرة وتساؤلات...فكلما ملت إلى أحد الموقفين، إلا وصوت من الأعماق يدفعني إلى تذكر الموقف الآخر.. راميا الاعتدال والتوازن... ولكن.. هيهات من الراحة.. راحة العدل والقسط....

الموضوع ليس جديدا، وقليل من المثقفين من لهم الشجاعة للاعتراف بهذه الازدواجية في المواقف... بل إن أغلبهم يتجاوزون الموقفين ليعبروا عن مواقف النفاق والمكر والخداع...

مع وضدّ... حسب الحال والزمن ... لكنني لا أهتم بمتابعة مواقفهم... ولا بمحاكمة نواياهم...ما يهمني هو راحتي النفسية... كيف أوفق بين إيماني بالحقوق الإنسانية لكل الأجناس وأتباع الأديان في العالم، وبين الانتصار لضحايا السياسة الإسرائيلية في فلسطين؟ هل هناك فرق فعلا بين اليهود والإسرائيليين؟ أليس هناك جماعات إسرائيلية ضد الكيان الصهيوني؟ بل إنه هناك طائفة من اليهود يعتبرون أن دولة إسرائيل كافرة، ولا بدّ من إزالتها... أليس كل يهودي مدني في إسرائيل، هو مجرد جندي احتياط في جيش العدو؟ ألا نلاحظ كيف يلتف اليهود في العالم حول دولتهم، حينما يحل بها خطر؟ أليس يدرّس في إسرائيل: كره العرب، في المدارس الابتدائية لأطفالهم؟؟ ألا نلاحظ كيف يتصرف المستوطنون الأجلاف بفظاظة، تجاه أبناء الأرض الفلسطينيين؟

يحرموننا من دخول القدس، ونفتح لهم الغريبة على مصراعيها ونؤمن لهم أزقتها وبناياتها... أليس من حقّ أهلنا في غزة، أن نضغط بورقة حج الغريبة، من أجل اعتراف العدو بجرائمه، أو على الأقل اعتذاره للأطفال؟؟ أسوة باردوغان؟؟ هل عندنا أسماء الحجاج الذين يزورون جربة كل سنة: مواقفهم؟ اتجاهاتهم؟ حتى نستطيع حرمان من يساند جرائم الكيان الإسرائيلي من الزيارة؟ ونضع عليه فيتو؟؟ هل نملك الشجاعة حتى نطلق أسماء شهداء القضية الفلسطينية على أزقة حارة اليهود في جربة؟؟ فنكتب: نهج محمد الزواري ونهج أحمد ياسين ونهج ياسر عرفات ونهج أبو جهاد؟؟؟

أشعر أحيانا أنني غبي وأحمق، عندما أصدّق شعارات حقوق الإنسان، والشاشة مليئة بصور مذابح الصهاينة وعملائهم... كما أنني أشعر بالذنب، حينما أرى طفلا يهوديا جريحا في عملية فدائية....بين هذا الموقف وذاك، علينا أن نثبت أنفسنا في ساحة التاريخ: ندرس أبنائنا الحقائق كما هي... بلا زيف ولا نفاق... نعامل الأعداء بمثل وسائلهم... نحول موقفنا المهتز إلى وقود لمعركة حضارية، ينتصر فيها القوي والمبدع والمفكر والمتحكم في التكنولوجيا... حتى لا تكون فتنة…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات