هل قدر " الثوّار" في تونس هو إحصاء خيبات الثورة ورسم خطوط انكساراتها؟ومتى يكفّ الصبيان عن البكاء؟
أعتقد أن المصادقة على قانون المصالحة الإداريّة ليس إلاّ حلقة من حلقات مسار متعرّج ومنحرف للفعل الثوري التونسي من حيث المنطلقات والمسارات والنتائج..
الآن قد تبدو عبارة " ثورة" شكلا من أشكال المجاز اللغوي والتوسّع الدلالي المشحون امتداحا لحركة اجتماعيّة أسقطت رأس النظام ولم تسقط كلّ مكوّناته العميقة ولم يدرك " الثوّار" منذ البدايات الأولى المطالب الحقيقيّة.بل إنّ الشعارات التي صاحبت تلك الحركة الاجتماعيّة الغاضبة كانت ارتجالية وجدانيّة ومتحوّلة رؤية ووجهة فقد بدأت غضبا جهويّا في ولاية سيدي بوزيد ثمّ احتقانا اجتماعيّا من خلال شعار " شغل ..حريّة كرامة وطنيّة .." ثم اكتسبت طابعا سياسيّا من خلال توسّعها جهويّا.. واتّصال بعض المكوّنات النقابيّة والحقوقيّة والسياسيّة بها..
كانت تلك الحركة الاجتماعيّة الغاضبة حركة " إصلاحيّة " لا غير ولم يكن طموح " الثوّار " آنذاك إسقاط النظام وإنّما كان مطلق الأمل إجباره على الإصلاح السياسي والاجتماعي وتوسعة فضاء الحريّات..
الحركة الاجتماعيّة الغاضبة أو الثورة التونسيّة لم تكن تحمل إرهاصات فكريّة واضحة ولم تكن لها قيادة ثوريّة مدركة للمآلات وإنّما كانت تحوّلا عفويّا في سياق تاريخي كثيرة غوامضه وألغازه ولذلك كانت النتائج مناسبة لحقائق المسار " الثوري" ومتجانسة مع منطق أحداثه وتغيّراته ومتناقضة جزئيّا مع أحلام الناس وانتظاراتهم…
بعيد سقوط رأس النظام استعاد الفاعلون السياسيون الذين وحّدهم قمع النظام معاركهم القديمة التي تعود إلى مرحلة الثمانينات ..تلك المعارك القديمة التي لم يعشها جيل الشباب لمدّة ثلاث وعشرين سنة كانت الانحراف الأساسي الذي أصاب المشهد السياسي وأسقط الكلّ في دائرة الفراغ والعبث وحين استعاد " الثوّار" معاركهم المزيّفة الطاحنة استعادت الدولة العميقة آليات تجدّدها وانبعاثها وسدّت منافذ انكسارها وعمّقت حضورها وفق سياق جديد استوعبت تحوّلاته…
لم يكن الشعب التونسي موحّدا في مواقفه من أحداث الثورة ولم يكن كذلك موحّدا في انتظاراته أو أحلامه " الثوريّة" وحين تناسى " الثوّار" المطالب الاجتماعيّة وانساقوا وراء خطاب نخبوي لا يفهمه عموم الشعب التونسي عملت الدولة العميقة على إبراز البعد الاجتماعي وفشل " الحكّام الجدد" في إدارة الأزمة الاجتماعيّة..
انشغل الفاعلون السياسيون الجدد بمعاركهم السياسيّة ولم يدركوا جميعهم رهانات السياق الثوري وتحوّلاته ولم تكن مسألة ترسيخ المكتسبات السياسية والحقوقيّة كالتعدديّة وحريّة التنظّم وحق التعبير وغيرها هاجسا جماعيّا وإنّما كانت في أحيان كثيرة مدارا للصراع بين أحزاب وقوى سياسيّة أنتجتها الثورة …استعان البعض من السياسيين والنقابيين والحقوقيين بمكوّنات الدولة العميقة وأركان الثورة المضادّة كالإعلام للإطاحة بخصوم السياسة بعيد انتخابات 2011 وفي 2013 تحوّلت هذه الاستعانة الخفيّة إلى تحالف موضوعي مكشوف بدا واضحا في اعتصام باردو حيث ارتقى " المناضلون السياسيون " نفس المنصّة مع جلاّدي النظام السابق وألقوا نفس الخطاب وطالبوا بنفس المطالب…
بدأت التنازلات والبعد عن ذلك الأفق الثوري الحالم مع الفشل السياسي في إدارة مواضع الاختلاف بين الفرقاء السياسيين.
ومع وضوح التدخّل الأجنبي من خلال المخابرات والمال والإعلام وضمن سياق عالمي اتفق على إجهاض الحراك الاجتماعي والسياسي والثوري في العالم العربي..
أعتقد أنّ كبح جموح الثورة المضادة في العودة واستعادة كلّ مواقعها القديمة لن يكون بتكرار نفس الأخطاء التي ارتكبها السياسيون والنقابيون والحقوقيون المحسوبون على الثورة فلكل نصيب في خيانة الثورة والإيقاع بالثائرين.. وأعتقد كذلك أنّ حطيئة المصادقة على قانون المصالحة الإدارية قد يقلّ جرما عن خطيئة اعتصام باردو الذي أسقط أوّل حكومة شرعيّة منتخبة بعد الثورة…
نداء تونس وهو الصورة الأوضح للثورة المضادّة في المشهد السياسي التونسي كان شريكا لكثير من " المناضلين" و" الحقوقيين" و" السياسيين المحسوبين على الثورة" وهو الآن شريك للنهضة في تعميق العودة إلى معاقله القديمة معاقل الحكم والسلطة.
وليس عيبا أن يجني نداء تونس ثمار الخصومة والعداء بين " الثوّار" وليس عيبا أن يدرك سياسيو هذا الحزب مستوى المراهقة السياسيّة التي ميّزت " الثوّار" من سياسيين وحقوقيين ونقابيين ..العيب كل العيب في من منعهم الصرّاح في كلّ محفل والبكاء في كلّ مأتم عن إدراك التحذير وفهم النّصيحة..
إنّهم مازالوا يصرخون ولا يفهمون..