لنجرّب أن نسلك هذه الطريق: طريق الفرجة الهادفة. طريق تحترم ذكاء المشاهدين دونما تحريض ولا استبلاد. ولنجرّب الثقافة مدخلًا للفرجة فهي، على الأقل، لن تؤذي أحدًا.
بسبب داء فقدان المناعة الثقافية يتوفّر العالم العربي على أكثر المشاريع التلفزيونية تأثيرًا على المشاهدين. إذ لدينا باقةٌ من الفضائيات مارست دورها التحريضيّ على الصعد السياسية والطائفية والمذهبية بانتهازية فادحة ونجحت في ذلك عمليا وتجاريا. بل توفّقت من خلال برامجها الحوارية الساخنة في تقديم مختلف الفرقاء كأشخاص متشنّجين يتبرَّمون من الحِجاج والتحليل، وكل سلاحهم الزّعيق والتشنيع والتخوين.
فكان أنْ مجّ المشاهد العربي هؤلاء جميعًا بعدما استحالوا في نظره إلى دِيَكة مهووسة بالتهارش، وقنافذ ليس فيها أملس. لكن إصرار هذه القنوات على بلوغ أهدافها كاملةً جعلها تواصل المشوار بعزم لا يلين، إلى أن نقلت معاركها العبثية الخرقاء من بلاتوهات التلفزيون إلى أرض الواقع. وها هو العالم العربي أمامكم اليوم ممزّقًا شذر مذر. معاركُ هنا وفتنٌ هناك. فمن يُنْكِر على هذا المشروع التلفزيوني الجبّار نجاحه في بلوغ مقاصده؟
في سياق مواجهة مشاريع الفتنة السمعية البصرية المذكورة أعلاه، ردّت فضائيات عربية شهيرة بالمسلسلات المكسيكية والتركية المُدَبلجة وبرامج تلفزيون الواقع والمسابقات المتوالية بحثا عن “نجوم” الله في الأرض: نجوم طرب وغناء ورقص.
كانت غاية هذه البرامج تحرير ملايين المشاهدين، خصوصا من النساء وفئة الشباب، من ربقة فضائيات التحريض. وهو ما أنجزَتْه بنجاحٍ زائدٍ، حيث أنتجت لنا هذه الفضائيات جيلًا رخوًا مائعًا مفرطًا في السطحية. جيلٌ آخِرُ ما نتوقّعُهُ منه الاهتمام بالشأن العام والانشغال بالقضايا المصيرية للمجتمع. فمن يجرؤ على اتهام هذه الرؤية التلفزيونية “البديلة” بالفشل؟
فيما اختارَتْ قنواتٌ أخرى وَضْعَ بيضها الإنتاجي كلّه في سلّة الأيديولوجيا الدينية. فأفسحت المجال لعشرات الوعّاظ الذين توالت علينا فتاويهم على مدار الـ24 ساعة. وصار المشاهد العربي ضليعًا في مقتضيات التديُّن في عصرنا الحديث بعدما نجحت معامل تكرير الفتاوى التلفزيونية في تحيين ترسانة أدعيتها من دعاء ركوب الميترو إلى دعاء صعود الأسانسير.
ولأننا نذهب بمشاريعنا التلفزيونية إلى الأقصى دائما، فقد انتهى الأمر بمئات المشاهدين الأوفياء إلى تكفير صعود الميترو والأسانسير معًا، قبل أن ينزلق التطرّف ببعض هؤلاء إلى تكفير مواطنيهم. وما أصبَحْنا نُصدِّره اليوم من إرهابٍ وقتلٍ باسم الدين ليس سوى دليلٍ على “نجاح” هذا المشروع التلفزيوني القاصف النّاسف في بلوغ العالمية.
فقط، فات أصحاب الحل والعقد في البلاد العربية، ومعهم أرباب الأموال والمستثمرين في الصناعة التلفزيونية أن يختبروا طريقًا رابعًا سأجازف باقتراح “الثقافة” مدخلًا له وعنوانًا. ذاك أنّ لهذه الأخيرة دورًا جوهريًّا في تأطير المجتمع وتخليق الحياة العامة وتحصين المجال السياسي من التطرّف والانغلاق.
فلِمَ لَمْ نجرّب تعزيز البرمجة الثقافية في التلفزيون؟ لِمَ لَمْ نحاول منح الثقافة مساحات جديدة على الشاشة مادام الوسيط التلفزيوني يلعب دورا محوريا في صناعة الرأي العام وصياغة الوجدان الجمعي؟ لكن قبل ذلك، علينا أن نختار: هل نريد شعوبا يَقِظة لها حدٌّ أدنى من المعرفة والوعي النقدي؟ أم كائنات استهلاكية هشة لا مناعة لها ومستعدة لابتلاع أيّ خطاب مهما كان ساذجًا، حتى لو كان خطيرًا، وتتلقّى الفرجة السطحية والتفاهات برضى وتسليم؟ النقاش ذو شجون، ونحن مهزومون فيه إذا ما واجهَنا خبراءُ نِسَب المتابعة بمنطقهم وحساباتهم.
لذلك نحتاج سريعاً إلى قرارات سياسية وإرادات شجاعة إذا كانت لدينا مشاريع مجتمعية حقيقية نحتاج فيها إلى جاهزية مواردنا البشرية في ورشة بناء المستقبل. لنجرّب أن نسلك هذه الطريق: طريق الفرجة الهادفة. طريق تحترم ذكاء المشاهدين دونما تحريض ولا استبلاد. ولنجرّب الثقافة مدخلًا للفرجة فهي، على الأقل، لن تؤذي أحدًا.