تفاعلا مع المقال المميز للصديق الحبيب بوعجيلة …

Photo

كعادته نجح الصديق الحبيب بوعجيلة في الوقوف عند أهم الاشكالات السياسية التي يعاني منها الواقع الحالي وذاك هو الدور الأنبل للمثقف العضوي.

ولأن السردية السياسية تمثل العمق التاريخي لكل طرح محايث للواقع، فقد عاد بوعجيلة لإعادة قراءة مسار تشكل المشهد الحزبي منذ هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات ووصولا للتوافق السياسي بين النهضة والنداء، مرورا بتجربة الترويكا.

وإني أشهد من خلال حضوري المشارك في المحطات الثلاث التي توقف عندها تنظيرا وحوارا ودحضا، أشهد أن ما توصل اليه من خلاصات كان وفيا الى حد بعيد بل ومتطابقا مع الوقائع، وهذا ليس غريبا على سي حبيب.

لكن ما أختلف فيه مع هذا الطرح أن كل عملية التقاء سياسي اختلفت في دوافعها وخلفياتها، بل وعبرت عن ارتجالية وتقطعات في بناء الوعي السياسي، بعيدا عن اي انتظام ممكن.

فحركة 18 اكتوبر بنيت على مطالب الاصلاح السياسي الستة المعلومة حينها، ولم تكن حركة سياسية بديلة كما قد نتأولها اليوم. ورغم بعض النزعات الراديكالية لدى بعض اطراف الهيئة إلا انه ومن خلال هيمنته المعنوية استطاع الحزب الديمقراطي التقدمي ان يضبط ايقاع هذه الهيئة ضمن الاسقف التي كان يراها.

ومسار الحوار الفكري الذي دار حول الاربع قضايا الجدلية بين الفرقاء السياسيين كان يسوق هذه التجربة حتما ضمن الأفق الاصلاحي والليبرالي الذي كانت تدور في اطاره، باعتباره يلامس قضايا ايديولوجية عوض تطارح القضايا الاجتماعية والاقتصادية الكبرى التي يمثل الاتفاق حولها مدخلا رئيسا لإعادة هيكلة الواقع. هيمنت خلافات النخب، رغم اهميتها، على حوارات 18 اكتوبر فلم تستطع هذه النخب ان تفكر خارج صناديقها الايديولوجية، لذلك لم يكن من اهمية واقعية لما تم الاتفاق حوله تحت الضغط الامني والسياسي والملاحقة الفكرية.

لم تستطع تجربة 18 أكتوبر ان تستمر ولا ان تتطور لأنها بقيت حبيسة صالونات حوارات النخبة، ففاجأها الواقع بحركته في اللحظة التي أعلنت فيه فشلها في تحريكه.

أما تجربة الترويكا بعد 2011، فلم تكن جزء من 18 اكتوبر ولا امتدادا لها، ولا تحمل حتى روحها وذكراها. لم تكن نفس الخلفيات ولا الدوافع لهذا الالتقاء الجديد. فرغم فوز النهضة بأكثر من 40 بالمائة من مقاعد المجلس التأسيسي إلا انها بدت ضعيفة وغير قادرة على الحكم منفردة بسبب ضغط الداخل والخوف من معارضة الخارج.

ورغم أن بعض اصدقاء النهضة الدوليين اشاروا عليها بالعمل منفردة نظرا لفشل تجارب الائتلاف الحكومي وتعطيلها لمسار الانتقال، إلا ان عدم الثقة بالنفس وغياب الرؤية الواضحة واستمرار الهواجس القديمة منعها من اتخاذ مثل هذا القرار. فرغم ان الضرورة الواقعية هي التي دفعت لتشكل الترويكا مثلما فعلت من قبل مع هيئة 18 اكتوبر، إلا ان ذلك يرتقي الى مستوى القانون ولا يمثل في حد ذاته عامل تشابه بين التجربتين.

ولكن ورغم محاولة بناء رؤية مشتركة للحكم من خلال الدستور الصغير وورقة التوجهات الاقتصادية والاجتماعية، إلا ان هذه الترويكا عجزت عن ايجاد الانسجام المطلوب لإنجاح التجربة، وتبين سريعا حجم التناقضات السياسية والشخصية بين الشركاء الثلاثة.

لذلك تحولت الحكومة الى جزر معزولة بعضها عن البعض. بل لم تقرب تجربة الترويكا المسافة الفكرية والسياسية بين الاطراف الثلاثة، وبقيت مصالح الاستمرار في الحكم وحدها الرابطة بينها. لذلك ليس غريبا ان نجد هذه الاحزاب قد تفرقت بل وتناقضت في طرحها السياسي بمجرد انتهاء تجربة الحكم الجماعي في اطار الترويكا. لتعلن فشلا جديدا لفلسفة العمل المشترك بين عائلات سياسية وايديولوجية متناقضة في منابتها وفي خلفياتها.

صحيح أن تجربة التوافق بين النهضة والنداء متفردة من بين كل تجارب الالتقاء السياسي في التاريخ الحديث التونسي، لكن ذلك لا يعود للتناقض الايديولوجي بين التيار الحداثي التقدمي الذي اراد النداء ان يمثلها والتيار الاسلامي الاصولي الذي كانت النهضة ترفع لوائه باستمرار وتستمد منه شرعية حضورها القوي في الواقع. فحالة الانزياح الايديولوجي والتفسخ الفكري من هذا الطرف او ذاك لم تحافظ على نقاوة الالوان الاصلية لكليهما. فلا النهضة مازالت تدعي تمثيلها للإسلام السياسي ولا النداء يمتلك الجرأة السياسية ليعلن علمانيته الكاملة.

فما يسوق على انها تجربة التقاء بين الاسلام الديمقراطي والعلمانية المعتدلة، لا يعدو كونه تقاطع مصالح ظرفية بعيدا عن اي عمق فكري او ابعاد سياسية ذات منحى استراتيجي بما يفيد في تثبيت مسار الانتقال السياسي.

ربما تسمح الفرصة مستقبلا لمزيد تعميق بعض هذه الافكار، لكن ما اردت ان انهي به هذا المقال هو التوقف عند خلاصتين:

1. فشل كل تجارب العمل المشترك سواء بالنظر لشروط استمراريتها وانسجامها الذاتي أو بالنظر لمدى التزامها باهدافها وقدرتها على تحقيقها، فكيف يمكن ان يؤثر ذلك على تصورنا لممكنات العمل المشترك مستقبلا وفرص نجاحه؟

2. تتحول الاشكاليات والقضايا من مرحلة لاخرى، والفاعل السياسي الحقيقي هو القادر على المواكبة الفكرية لهذه التحولات واشتقاق الرؤى السياسية المناسبة لها. واعتقد انه وبسبب ضعف رؤانا السياسية لم نتفطن لخطورة الديمقراطية الليبرالية باعتبارها مدخلا لاختراق سيادتنا الوطنية وارتهان خياراتنا الوطنية السياسية والاجتماعية والتنموية والثقافية.

المشكل اذن في بناء ديمقراطية وطنية، قرارها ذاتي وخياراتها متماهية مع حاجيات الواقع وخادمة للمصالح الوطنية.

البناء الديمقراطي هو في جوهره بناء وطني مستند لإرادة شعبية لا تضفي عليه فقط شرعيتها ولكن أيضا تفرض عليه أجندتها وقائمة مطالبها وكيفية الاستجابة لهذه المطالب. باختصار البناء الديمقراطي مشروع وطني، هذا هو الخيار الاول فلماذا نسارع بالبحث عن طريق اخر حتى لو كان ثالثا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات