كيف يمكننا أن نحلم بالحرية والمساواة والتشارك، بأهواء حزينة ويائسة ومستلبة؟

Photo

من مدة، قاطعت تقريبا كل وسائل الأخبار، ما عدى جريدة لوموند ديبلوماتيك وبعض الجرائد العربية المحترمة، وتخلصت من مرض التلفزيون، وحصرت استعمالات الفايسبوك في التواصل الاجتماعي البحت، وخفضت تفاعلاتي الاجتماعية إلى حدها الأدنى، وقررت أن لا أفتح أي نقاش أو حوار إلا مع قلة من البشر الاستثنائيين في نظري.

وبينما كنت مستلقي في حديقة عمومية وبجانبي كرة سلة، غمرني شعور بالطمأنينة والرضى والبهجة. وقتها تراود إلى فكري مقالة جميلة لفريدريك لوندون، مقالة حول "سياسة الأهواء". فحوى الفكرة، أنه الأهواء أو الأحاسيس أو المشاعر أو سميها ما أردت هي، على عكس ما نظن، موضوع سيطرة وإنتاج وسلطة، وليست مجرد استجابات اعتباطية لمؤثرات المحيط العام.

وربما على نحو ما تحدث ماركس عن استلاب الوعي، نحتاج اليوم إلى الحديث عن استلاب الأهواء. وقد يكون حديثا من جهتين: جهة أولى، كيف تخلق السلطة الأهواء اليوم، كيف تخلق لدينا الحنق أو الغضب أو الكراهية؟

أما من جهة ثانية، كيف تروج لنا السلطة الأهواء الزائفة؟ : ابتياع السعادة عبر الاستهلاك، الترفيه، سكرة آخر الأسبوع، المريول المزيان بـ120 دينار الي تحلم باش تشريه، الخ الخ.. وهناك وجه آخر، ومهم جدا، لاستلاب الأهواء، وهو القناعة التي ما فتأت تنتشر كونه لا أمل في أن نحصل السعادة من بعضنا البعض: كونه لا أمل في جار، أو صديق، أو حبيب، لا أمل إلا في نفسك وما تجنيه لها.

ربما ميشال فوكو في آخر حياته كان على حق، حين أشار أنه مقاومة السلطة في عصرنا الراهن تكون عبر ممارسات النفس، أو الانهمام بالنفس. وبقدر ما كان فوكو يحاول الخروج من أزمة فكرية/سياسية وقع فيها نتيجة خطوة تحليلية جعلته يعمم السلطة على كامل الجسد الاجتماعي، حتى ألغى أي فضاء ممكن للمقاومة غير النفس، إلا أنه بالفعل ممارسات النفس وما تنتجه فيها من أهواء هي سبيل مهم جدا للمقاومة في زمننا الراهن: الرياضة، الحب، الموسيقى، الكتابة، وغيرها.

هنا ننتبه أنه إيقاظ الوعي أو تنوير العقل لا يكفي وحده للتحرر، التحرر من الاستبداد أو الرأسمالية أو الفاشية، إلا لو ترافق أيضا مع تحرير الأهواء وإسعادها وتنميتها. ونكتشف أيضا أنه التغيير الكبير كما نحلم به، نحن معشر جيل التسعينات أبناء الجامعة والمسار الثوري وكل تلك الأجواء، لن يتحقق في المجتمع ما لم يتحقق في أنفسنا وعلاقاتنا الحميمية وصداقاتنا وراوبطنا الاجتماعية الدقيقة والمصغرة.

ربما أحد أخطاء جيلي هو تركيزنا المفرط على الدولة والنظام والمجتمع، وما شابهها من الكليات الكبيرة والمجردة، في حين أهملنا أنفسنا. كيف يمكننا أن نحلم بالحرية والمساواة والتشارك، بأهواء حزينة ويائسة ومستلبة؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات