بداية، أود أن أحيّي جميع أعضاء "المركز الدولي للتواصل الإنساني" في باريس، كما أعتذر منهم لعدم تمكني من الحضور بينهم لمناقشة كتاب "ماركوندا" أو احتمالات سجين سياسي"للكاتب التونسي، "مراد العوني العبيدي"، وذلك لانشغالي بالإشراف على رسالة دكتوراه لأحد الطلبة، ولم يمنعني غيابي من الاطلاع لاحقا على كتاب "ماركوندا" وهنا لا يفوتني شكر "مؤسس المركز" الأستاذ "الطاهر العبيدي" الذي تكرم، كعادته بإرسال الكتاب ليبهولندا، مرفقاً بمقترح أن أكتب عن أثر المخزون الثقافي للراويحول شخصيّات الرواية، شأنه شأن سائر رؤساء التحرير والكتّاب الصادقين الذين قضوا أعمارهم في الثقافة والسياسة والإعلام بعيدا عن الهرمية الإدارية وجعل العمل الإعلامي عمل أسري وفريق عائلي مترابط يشجع على العطاء والانجاز بلا حدود.
كاتب متصالح مع قناعاته
أن تكتب عن المناضل "مراد العوني العبيدي"، مؤلف كتابي "مضايا صراع الذاكرة والجدار" و"ماركوندا أو احتمالات سجين سياسي" …فأنت أمام مهمّة صعبة وشاقة إلا أنها مهمة شيقة، فأنا واحدة من الذين تابعوه في كتاباته وأحاديثه المسموعة والمرئية، وقد ترك أثرا عميقاً في نفسي نشاطه الوطني والإعلامي ذو الأداء المتصالح مع قناعاته، وهو الذي أصبح منذ بداية التسعينات "التلميذ الرمز" الذي طبعت حياته بالتحدّي وشكل الصراع على طريقة صخرة "سيزيف" من أجل انبلاج وطن كما يحلم به، وقد وقف في سجنه طيلة سنوات وقفة العز والكرامة والأصالة المستندة إلى الروح الإسلامية المشبعة بالقيم والمبادئ ..
واعتمادا على الإحساس الصارخ لديه بالوطنية والإحساس بالمسؤولية تجاه أبناء بلده وأبناء شعبه، أهدى كتابه إلى كل الأحرار، الذين "لم يولدوا من صلب من عذبوا"، كي لا يستكينوا إلى النوم خوفاً من عودة "الاستبداد من نفق مظلم".
الاستبداد لا يفرّق بين الإنسان والنفايات
يخبرنا "العبيدي" عن بطل روايته "سالم"، الذي شارك الانقلابيين للإطاحة بنظام " الرئيس الحبيب بورقيبة" ودوره في تلك المحاولة، ثم كانت النتيجة الفشل والسجن..ويكون مصيره الاعتقال..تنفجر صفحات الكتاب مترجمة بتأني مشاهداته داخل السجن الذي تعرّض فيه إلى كل صنوف التشنيع والتشويه والجلد والدماء والأشلاء والآلام والمعاناة، وليالي الصمّود والصبر والتصدّي والمكابرة، وكيف مورست ضدّه جميع أنواع التعذيب، وكيف كان يفقد الإحساس بكل ما يدور حوله، خاصّة بعدما خلع الجلادون ملابس زوجته عنوة أمامه في غرفة التحقيق، وكيف كانت أيامه في السجن ثقيلة قاتمة رمادية موجعة لا رائحة ولا لون فيها سوى التوتر والحزن والوجع والأفق المسدود، وهو جسدا مكدّسا على أرض المعتقل، حيث تكوّر في زاوية رديئة، حتى أصبح ككومة نفايات ملقاة على الأرض بعد تعرضه لعملية إخصاء مؤلمة وموجعة، ليبقى يلوك الأيام القاسية الموغلة في السواد بلياليها الموحشة الدكناء، تنتشله أحياناً ذكرياته القديمة للحظات بعيدا عن أجواء المعتقل، ولكنها سرعان ما تختفي من شاشة الذاكرة، حيث لم يبق له في ذاك المعتقل سوى جثته العاجزة المشوهة بفعل آثار السياط وبصمات العصي وأسلاك التعذيب.
كما يصف لنا أوضاع السجناء الذين كانوا معه، يعرّفنا على حياتهم بإيجاز، والذين لم يكونوا أفضل منه حالاً، وكيف توقفوا في الأيام الأخيرة عن الكلام، وربما حتى عن الحركة، وكأنهم يستعدون لنهايتهم الحتمية والمرّة، إذ كانت تتماوج جراحاتهم الغائرة بين مفاصل الروح، تتجرع مرارة الهزيمة والإحساس بالإذعان والرضوخ للواقع الأليم.
من قرأ كتاب "مضايا صراع الذاكرة والجدار"، للراوي "مراد"، ومن تابع أحاديثه وتعليقاته في الوسائل الإعلامية يلاحظ أن أثر السنوات التي قضاها "مراد" في السجن قد عزّزت من صلابة النصوص التي حمّلها لشخصيّة "سالم" بطل روايته "ماركوندا أو احتمالات سجين سياسي"، كما أن أثر إيمانه بالقضية التي كان يناضل من أجلها، وعذاب السجناء، وذكرياتهم التي حفروها على الجدران، ورماد أشلائهم، قد استفاد منها"مراد" كي لا تطوي عاصفة الأيام ألآمهم، التي يعتبرها بمثابة أوسمة على صدور هؤلاء السجناء، وليذكّر بمسؤولية من وراء هذه المذبحة قبل ثورة الياسمين، وبعدها، ممن غيرتهم المناصب والمكاسب..
السجن دمر الاجساد والعائلات
جسّدت شخصيّة "فاطمة" زوجة "سالم"، معاناة زوجات السجناء التونسيات اللواتي اعتقلن وعذبن واعتدي عليهن جنسياً أمام أزواجهن، واللواتي أجبرن على الطلاق رغم وجود الأطفال، وكذلك مأساة انتظار الحبيبات لأحبتهم لمدة سنوات طويلة، ثم انفصالهن بعد وقتٍ من خروجهم من السجن، وانفصالهم عن بعض وتزوج كل منهما، كما جسّدت حالات مأسوية تروي بألم حرمانهن من حقهن الطبيعي في ممارسة الجنس مع أزواجهن،
بحيث بقيت علاقة الزواج فيها صورية، كما حدث مع "سالم" وبقيا سوياً من أجل طفلهما الوحيد، وكأن الزواج يختصر فقط في رعاية طفلهما، و"فاطمة" التي كانت جاهلة بالأمور السياسية والتنظيمية حيث فاجأت زوجها ذات يوم وعاتبته لأنه سبّب لها ولطفلها الكثير من المتاعب والمصاعب المجانية، كما ذكّرته بمسؤوليته المباشرة عن عمرها الذي سرق منها بسبب انخراطة في ذلك الانقلاب الفاشل، وخسارة شبابها وعدم تمتعها كإمرأة بحياة طبيعية متوازنة.
كما عرّجت على تحوّل في الشخصية لدى النساء اللواتي غاب عنهن أزواجهن فترة طويلة في السحن مما جعلهن يصبحن صاحبات القرار، اقتصادياً وأسرياً، مما خلق خلافات كثيرة أثناء فترة السجن، وبعد الخروج منه بسبب العامل الاقتصادي، فعدم عمل السجين بعد الخروج أثر في العلاقة الزوجية طالما أن خروجه لم يسهم في تغيير الوضع العائلي، فبقيت المسؤولية الاقتصادية على عاتق الزوجة، مما لم يسمح له بممارسة دور رب الأسرة، وهذا ما أدى إلى تفاقم الأزمات وانتشار حالات الطلاق وانهيار الروابط الأسرية والتفكك الأسري.
المرأة عنوان لتخصيب البلد
ولو نحن عدنا إلى نصوص "مراد" لاكتشفنا شغف "مراد" بالمرأة التونسية المناضلة حيث وضعها في المكان الذي تستحق منذ أن غرف من بحر حنان أمّه، وقد آلمه كثيراً حزنها وبكاءها وغضبها يوم ألقي القبض عليه، وخلال أيام الأسر ولياليه الطويلة، كما كان يؤذيه حزن أمهات المساجين تجاه معاناة أبنائهن وما يتعرضون له من قهر وتعذيب، وقد خصّ "فاطمة" بصفات وجوانب إنسانية جعلتها أكبر وأعظم من الرجال، فالمرأة عند "مراد" حياة ومجتمع كامل تحيى مع من يحبها، خاصة مع الرجل الذي يرى في حبيبته كل نساء الأرض ويكتفي بها، من أجل أن يكونا نباتا يخصب أرض البلد ويحميه من الانجراف والتصحر…
"فيكتوريا" تغير مفهوم الانقلاب
"فيكتوريا" طبيبة فرنسية ذات ميولات شيوعية، فكرياً وسياسياً، هي أنثى لا تريد أن تعبر الحياة والأحداث العامة، وكأنها غير معنية بها، لذا سكنت في أعماقها ملكة من جنس الأبالسة، كانت شبقية إلى حدِ كبير، تريد أن تعبث، وتلهو، وتختبر نجاحها في إعادة الحياة لقضيب "سالم" حتى تكتشف نجاح العملية، وتكتشف أنوثتها من جديد مع رجل مسلم ناضل وسجن بسبب أفكاره، ومشاركته بحركة انقلاب قام بها حزب إسلامي في تونس، وقد نجحت بإزالة الحزن من عينيه بعد أن رآها مثل فراشة ملوّنة مبهورة بالأضواء، أضواء "ثورة الياسمين" وأضواء جماله وثقافته وتاريخه النضالي.
لو أخذنا بعين الاعتبار أثر مخزون "مراد" التربوي عن المرأة الفرنسية لرأينا الخطأ الفاضح في نظرته عن سهولة ممارسة الجنس مع المرأة الفرنسية وكأنّها سلعة تباع وتشترى بسهولة، وهذه قناعة ثابتة عند الرجل الشرقي الذي لم يتخلص من دمغات وثغرات وفجوات ترافقه في حياته، وهذا ما يعانيه كل رجل شرقي ولد وترعرع في أحضان مفاهيم شعبية خاطئة الدلالة تغذيها الهواجس المكبوتة.
مهما تجرد الكاتب يبقى إنسانا
والد سالم مقاوم قاتل الاستعمار الفرنسي من أجل استقلال بلده واستعادة كرامة شعبه وحقه في التمتع بحياة كريمة وهادئة.
هذا الوالد المناضل زمن الاستعمار كان شاهداً على ما شهدته الساحة التونسية منذ الاستقلال إلى أيامنا هذه من عمليات تضليل وغسل أدمغة، وحرب استبيحت فيها أرزاق الناس باسم الدفاع عن الدين والوطن، والتي بالنتيجة لم تؤد إلا إلى محاولة تمزيق نسيج المجتمع التونسي.
الدراسات العلمية في هذا المجال، أثبتت أن طفولة الكاتب ومكنوناته الفكرية، وتجاربه الحياتية تبقى فاعلة في نفسه طيلة حياته، ولها أثر كبير على نمط سلوكه في المستقبل، فالكاتب مهما تجرد، يبقى إنساناً تتفاعل فيه تلك المكنونات، وتصبح ميداناً خصباً لخياله وتخميناته، وبناءً على ذلك، أعتقد بأن الكاتب "مراد" قد عبّر بشكل أو بآخر عما كان يسمعه من والده عن التزاماته السياسية والفكرية والتنظيمية.
شخصية متعدد الأبعاد
الحديث عن الكاتب الراوي "مراد العوني العبيدي" حياته، كتاباته، يطول ويتنوّع بتعدّد الشخصية التي تسكنه والتي لا تعرف الهدوء والاستكانة ولا تعترف بالقدرية، من أجل الإيمان المبدئي بالقضية، والإيمان المركزي بحق المظلومين في استرداد حقوقهم، والوفاء لرفاق المحنة والنضال، والذي لم يبخل بتسجيل آثارهم ومعاناتهم وأحلامهمـ سواء في كتابه موضوع النص "ماركوندا أو احتمالات سجين سياسي"ـ أو من قبله مؤلفه "مضايا صراع الذاكرة والجدار"ـ ليكون الكاتب "مراد العوني العبيدي" راويا وشاهدا في نفس الوقت، ومخرجا استطاع إتقان وتوزيع الأدوار على أبطال الرواية، منطلقا من معايشة الواقعية، ومعرفته بما يدور خلف جدران السجون والمعتقلاتـ باعتباره أحد التلاميذ الضحاياـ حيث سجن وهو ما زال حدثا.
والسؤال الموجع هل الكاتب مراد العوني وكل المئات من الأطفال الذين كانوا في مثل سنه، هل هم ضحايا النظام أم ضحايا ذاك الحزب؟ الذي زج بهم في معركة غير متكافئة وغير محسوبة النتائج؟ أم ضحايا صراع سياسي كانوا فيه حطبا تدفأ به تجار السياسة وقراصنة الايديولوجيا..
د. نسرين حداد: عضو "المركز الدولي للتواصل الإنساني" باريس