منهجية فهم الدستور
التقرير الذي أعدّته لجنة الحريات الفردية والمساواة ادّعى في مقدمته المنهجية أنّ ما جاء فيه من بيانات وما ورد فيه من مقترحات قوانين إنما هو مؤسّس على دستور الجمهورية الثانية، بل هو تنزيل تفصيلي لما جاء في هذا الدستور من إجمال، وظلّ هذا الادّعاء يتردّد في أثناء التقرير مرّات عديدة، وهو ما يدعو في مناقشة هذا التقرير وما ورد فيه من بيانات ومقترحات إلى التوجّه بالفحص النقدي إلى هذا الادّعاء، فإذا ما سقط أساس البناء سقط البناء بكلّ تفاصيله.
وأوّل ما ينبغي تناوله في هذا الفحص النقدي هو بيان المنهجية التي ينبغي أن يُفهم بها الدستور في مضامينه القانونية حتى تُستوحى منه الآراء وتبنى عليه التفاصيل؛ لأنّ الخطأ في تلك المنهجية يؤدّي إلى الخطإ في الآراء والاقتراحات التي تستمدّ منه وتبنى عليه، فإذا ما تقرّر منهج فهم الدستور انتقل الفحص إلى مدى التزام التقرير به في الاستنتاج منه والبناء عليه، ثم ينتقل إلى بيان الأخطاء التفصيلية الواردة في التقرير إذا ما كان قد حاد عن المنهج الصحيح في التعامل مع الدستور بالفهم والاستمداد، تلك حلقات ثلاث نبتدر أولاها في هذه الورقة ثم نتبعها إن شاء الله بالحلقتين الباقيتين.
أولا ـ منهجية فهم الدستور والبناء عليه
الدستور نصّ محرّر في نسخته الأساسية باللغة العربية، وهو ذو طبيعة قانونية يأتي في سلّم القوانين في أعلى الدرجات من حيث الكلّية والإجمال والعموم، غير أنّه وإن كان ذا طبيعة قانونية إلا أنّه مؤسّس على رؤية فلسفية، وقائم على أبعاد ثقافية ودينية واقتصادية وسياسية، وهو ما يفسّر كيف أنّ إعداده وهو لا يتجاوز في حجمه بضع صفحات من الحجم المتوسط استغرق من الزمن أكثر من عامين، واشترك في ذلك الإعداد عشرات إن لم يكن بضع مئات من المختصين في شتى الاختصاصات بصفة مباشرة، وربما آلاف منهم بصفة غير مباشرة؛
ولذلك فإنّ فهم هذا الدستور والاستنتاج منه والبناء عليه يستلزم أن يكون وفق منهجية خاصّة تشترك مع فهم سائر النصوص في قواعد عامّة، ولكنها تنفرد ببعض القواعد الخاصّة به، والغفلة عن هذه المنهجية المزدوجة توقع في الزلل. ويمكن أن نوجز القواعد الأساسية لهذه المنهجية الخاصّة في فهم الدستور والاستمداد منه في خمس قواعد هامّة هي التالية:
1 ـ تحكيم منطق اللغة العربية وقواعدها.
الدستور محرّر في نسخته الأساسية باللغة العربية، فينبغي في فهمه الاحتكام إلى منطق تلك اللغة وقواعدها كما كان جاريا عليه الأمر فهما واستعمالا عند المشرع الذي وضع هذا النص الدستوري، وبحسب ما كان رائجا في الفهم والاستعمال عند الناس زمن وضعه مبنيا على القواعد الثابتة لهذه اللغة،
واللغة العربية كما هو معلوم ثرية جدا في الدلالة على المعاني مفرداتٍ وتعابير ونظما، ففهم الدستور ينبغي أن يكون إذن وفق ذلك كلّه بعيدا عن التأويل المتعسّف بوضع الحقيقة في موضع المجاز أو وضعه في موضعها، وعن مخالفة منطق البيان العربي وقواعد اللغة نحوا وصرفا وبلاغة وغير ذلك من قواعدها المتعارف عليها.
2 ـ تحكيم المنطق القانوني وقواعده
إنّ الدستور وإن كان مؤسسا على رؤية فلسفية وذا بعد سياسي بالأساس وأبعاد أخرى ثقافية ودينية واقتصادية إلا أنه مصاغ صياغة قانونية في أعلى درجة من درجات سلّم القوانين؛ ولذلك فإنه وإن كان ينبغي في فهمه استحضار تلك الأبعاد فإن ذلك الفهم ينبغي أن يتمّ في إطار منطق القانون بما يقتضيه ذلك المنطق من مصطلحات مرعية ومن صياغات معهودة ومن عادات جرى عليها التعبير القانوني.
وعلى سبيل المثال فإنّ القانون طبيعته الإلزام إيجابا أو منعا أو تخييرا مهما كانت الصيغ التعبيرية التي ترد فيه، فحينما يأتي في الدستور في الفصل 44 : " الحقّ في الماء مضمون" فهذا التعبير وإن كان في صيغة خبرية فإن المقصود منه إلزام الجهة المعنية بضمان توفير الماء للمواطنين وليس مجرّد الإخبار كما يفيده ظاهر الصياغة. وحينما جاء القرآن الكريم يشرّع للصيام عبّر عن ذلك بقوله تعالى " كتب عليكم الصيام" وهو تعبير يحمل الإلزام وإن كان في ظاهره خبريا.
3 ـ مراعاة المنهج الذي حدّده الدستور نفسه في الفهم
إنّ الدستور يحدّد في العديد من المواضع القواعد التي على أساسها ينبغي فهم بعض ما يرد فيه من الدلالات وما تتضمنه بعض الفصول من الأحكام، وذلك ببيان مباشر للكيفية التي ينبغي أن يفهم بها ما جاء فيه من تشريع، أو بشرح مباشر لبعض المفاهيم والمصطلحات التي هي مظنة للاختلاف في التأويل، أو بتقييد مطلق وتخصيص مجمل، أو بإحالة فصل في فهم مدلوله على فصل آخر، أو إحالته على حقل دلالي معيّن من قانون دولي أو معاهدات ملزمة.
وعلى سبيل المثال فإنّ الدستور بعدما شرّع للحقوق العامّة والخاصّة في الباب الثاني منه عقد الفصل 49 يبيّن فيه أنّ هذه الحقوق ينبغي أن تخضع " لمقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العامّة أو الآداب العامّة " ومعنى ذلك أنّ الحرّيات التي وردت في ذلك الباب ينبغي فهمها على الأساس الذي لا تتعارض فيه مع الأمن العامّ أو الدفاع ...، وهكذا فإنّ الدستور قد بيّ في العديد من المواضع المنهج الذي ينبغي أن يُفهم به، فإذا جرى الفهم على غير تلك القواعد فإن ذلك يُعدّ مخالفة دستورية..
4 ـ تأسيس فهم الدستور على أساس تكامله
الدستور كلّ متكامل لا يفهم إلا بمنهج التكامل بين مختلف أجزائه، وأما فهم فصوله مجزّأة متفاصلة فإنه يوقع في الخطإ، وإذا كانت هذه القاعدة قاعدة في فهم النصوص بصفة عامّة فإنّ الدستور نصّ عليها بصفة خاصّة في فهم فصوله وذلك في الفصل 146 منه الذي فيما نحن بصدده ـ أعني منهجية الفهم ـ وهو فصل في منهجية الفهم جدير بأن يُكتب بماء الذهب ونصّه: " تُفسّر أحكام الدستور ويؤوّل بعصها البعض كوحدة منسجمة".
وبالإضافة إلى التنصيص الصريح على هذه القاعدة المنهجية فإنّها قاعدة يؤكّدها بصفة ضمنية كون فصول الدستور صُدّرت بتوطئة نصّ الفصل 145 على أنها "جزء لا يتجزّأ منه" وبباب أول هو باب المبادئ العامّة، وهو ما يقتضي ضمنا أنّ كلّ الفصول الواردة في الدستور يجب أن تكون محكومة في الفهم بما جاء في هذه التوطئة وفي المبادئ العامّة ووفق ما يقتضيه الوارد فيهما من المبادئ والأحكام؛
وذلك لأنّ التوطئة حتى بمقضى اسمها فإنها توطّئ وتمهّد وتؤطّر لما يأتي بعدها من المضامين، والمبادئ العامّة تقتضي بمقتضى مبدئيتها وعمومها أن يُفهم ما يأتي بعدها في ضوئها وعلى أساس مقتضياتها.
وعلى سبيل المثال فإنّ ما جاء في التوطئة من بناء لغوي على المفعول لأجله ( اعتزازا، تعبيرا، تأسيسا ...") يقتضي أنّ كل ما جاء من أحكام في فصول الدستور إنما هو من أجل ما جاء فيها من المبادئ، فهو مبني عليها، وهي حاكمة عليه، فحينما يأتي في هذه التوطئة أنّ هذا الدستور رسمه نواب الشعب التونسي " تعبيرا عن تمسّك شعبنا بتعاليم الإسلام ..."فإنّ ذلك يقتضي أن كلّ ما جاء في فصول الدستور ينبغي أن يكون تعبيرا عن تعاليم الإسلام التي يتمسّك بها الشعب التونسي ( وبالمناسبة فإن أصل هذا التعبير كما اقترحناه في لجنة التوطئة والمبادئ العامّة كان: " تأسيسا على تعاليم الإسلام.." إلا أن هذا التعبير لم يرض به شقّ من المعارضة فاقترحوا من أجل إضعافه أو إهداره الصياغة الحالية فوجدنا أنّ هذه الصياغة المقترحة قوّت المعنى الذي أردناه ولم تضعفه إذ أضافت إلى المعنى الأصلي وهو البناء على تعاليم الإسلام معنى آخر هو تمسّك الشعب بهذه االتعاليم، فأصبح بمقتضى هذه الصياغة ما جاء في الدستور تعبيرا عن تعاليم الإسلام وتعبيرا عن تمسّك الشعب بهذه التعاليم، فسكتنا "على مضض" وتمثّلنا قوله تعالى:" ومن يتّق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب").
5 ـ الاهتداء بقصد المشرع
إنّ فهم الدستور ينبغي أن يكون مسترشدا بصفة أساسية بمقاصد المشرع الذي وضعه، وإذا كانت هذه المقاصد تعلم من خلال التعابير اللغوية والقانونية التي صيغت بها الفصول إلا أنها قد تكون أحيانا على قدر من الخفاء يستلزم الاستعانة بوسائل أخرى خارج النصّ الدستوري.
ومن أهمّ تلك الوسائل العودة إلى المداولات التي كانت تدور بين أعضاء المجلس التأسيسي الذي تكفّل بوضع الدستور، سواء المداولات التي كانت تتمّ في اللجان المختصّة كلّ في الباب الذي عُهد به إليها أو المداولات التي كانت تتمّ في نطاق الجلسات العامّة، فهذه المداولات كانت تتناول بالتفصيل مدلولات التعابير التي صيغت بها كلّ فصول الدستور كما كانت تتناول بالتفصيل المقاصد والخلفيات والأبعاد لكلّ ما جاء في تلك الفصول؛ ولذلك فإنها تُعتبر مفزعا لترشيد الفهم حينما يُستشكل معنى من المعاني أو حكم من الأحكام في الفصول الدستورية وتختلف الآراء في تأويله.
هذه طائفة من القواعد المنهجية التي تعتبر قواعد ضرورية في فهم الدستور وفي استمداد آراء وأحكام منه وبناء قوانين تفصيلية على أساسه (وقد تضاف إليها قواعد منهجية أخرى)، والغفلة عن هذه القواعد مظنّة للوقوع في الخطإ الذي قد ينتهي إلى انتهاكات دستورية والحال أنّ الدستور ما أُعدّ إلا ليكون هو الحاكم على كلّ ما يصدر من القوانين المنظمة للحياة العامّة في جميع المجالات،
فماذا كان من موقف للجنة الحريات الفردية والمساواة من هذه القواعد المنهجية في التقرير الذي أعدّته في شأن هذه الحريات والمساواة؟ وماذا كان لذلك من أثر في تفاصيل ذلك التقرير؟ ذلك ما نبيّنه إن شاء الله في حلقات قادمة.