يعود الصراع من جديد حول محددات الهوية ومشروعية المرجعية المدنية للتشريع في تونس إثر الإعلان عن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، رغم الظن الذي ساد طويلا حول صلابة التوافق السياسي المنصوص عليه في الدستور حول الجمع بين مرجعية الهوية الإسلامية والمدنية في التشريع والحكم. وكنا ننبه منذ سنين إلى غياب الحوار الفكري العميق الذي يجب أن يؤسس لمثل هذا التوافق، وهو ما يجعله هشا ومعرضا للتهاوي عند كل اختبار تشريعي جديد.
ورد التقرير ملخصا للرؤى أو المقترحات المتنوعة والمتضاربة أحيانا التي تمخضت عن ورشات علمية وجلسات استماع مع الجامعيين ونشطاء المجتمع المدني. ومنها تأتي صعوبة التوفيق في صياغة التقرير بين المرجعيات الدينية والحداثية والعلمانية التي تستند كلها إلى الدستور الضامن لهذه التعددية.
فرغم أن التوطئة النظرية لهذا التقرير حاولت الالتزام بالضوابط الأصولية والمقاصدية لمفهوم الحقوق والمساواة في الإسلام، إلا أن مخرجات التقرير لم تتقيد كثيرا بهذه الضوابط فيما يتعلق خصوصا بأحكام الميراث والأسرة. هذا الارتباك نجد تفسيرا له في خطاب النخب الفكرية التونسية الذي لا يزال عاجزا عن الجمع في كثير من الأحيان بين الانتماء للهوية الدينية والتطلع للتحديث.
وهو يحيلنا لهذا الصراع المستمر بين أنصار المرجعية الإسلامية الرافضة لأي تجديد وأنصار المرجعية الحداثية الممتنعة عن أي أصول تراثية دينية. وهو صراع لا مبرر له بالعلاقة مع الحاجة الملحة لانفتاح العلوم بعضها على بعض، وبخاصة العلوم الدينية والعلوم الإنسانية، حتى نواجه تعقد مشكلات الإنسان المعاصر وندفع معا نحو تجديد الفكر الإسلامي بما يؤهله لاستيعاب قضايا الحداثة ومناقشتها ودون أن يتنصل من ثوابته الروحية والأخلاقية.
إن واجب المشاركة في النهوض بتجربة المواطنة التعددية التي تجمع كل المرجعيات على أساس المساواة في الحقوق المدنية، يفرض علينا التربية على قيمة احترام الاختلاف من أجل العيش السلمي المشترك. وكل تجاذب عنيف بين المرجعية الدينية والحداثية لا يمكن أن يخدم إلا مصالح من يراهن على الاقتتال والحرب الأهلية وضرب التجربة الديمقراطية الناشئة.
إن مفهوم المدنية وتطبيقاته لا يتعارض البتة مع الخصوصية الثقافية والدينية. فلا تخلو تجربة مدنية في العالم سواء في مستوى التشريع أو الحكم من منظومة قيم تستند إليها وتؤطرها، سواء تحت مظلة الدين أو الثقافة أو الكونية الإنسانية. وإنه من الوهم الظن بوجود تعارض بين المدني والديني في التجربة الغربية. فالكنيسة وتمثيلية الأقليات الدينية يرجع إليها عند كل قرار مصيري يتعلق بالسلم الاجتماعي.
ست سنوات بعد تثبيت الحريات العامة في تونس من خلال الحريات الجمعياتية والسياسية، تفرض علينا التقدم نحو تثبيت الحريات الفردية كذلك التي تضمن الحق في الكرامة الإنسانية والمعطيات الشخصية والحرية الفكرية والأكاديمية وحماية حقوق المرأة والطفل والأسرة وغيرها. وهي مرحلة أساسية لتجذير قيم المواطنة والمدنية دون أن تتعارض مع قيم الإسلام.
يجب أن نثمن في هذا المجال ما جاء به التقرير من دعوات لحماية الحريات الفردية في جميع المجالات. ولكن لم ينتبه التقرير إلى أهمية أن تتوافق بعض مقترحاته مع ثقافة البلاد الإسلامية. فلا يمكن أن يقبل المجتمع المتدين في غالبيته معارضة لمنظومة الميراث في الإسلام بداعي المساواة بين المرأة والرجل، كما لا يمكن أن يقبل الاختلاط في النسب بدعوى حماية حقوق الطفل، أو عدم تجريم المثلية بدعوى الدفاع عن الحريات الجنسية في مجتمع محافظ مسلم، أو الإقرار بالعلاقة الجنسية غير الشرعية على أساس التراضي بين الطرفين وهي تعتبر زنا في نظر الشرع وفي ثقافة المجتمع.
إن الأصل في الحريات التقيد بمنظومة القيم الاجتماعية من أجل المضي نحو تحرير الإنسان. ولا يعني ذلك أن منظومة القيم هذه غير قابلة للتأويل والتجديد بحسب تطور الحاجات الإنسانية في كل عصر. لذا يمثل التقرير بإيجابياته وسلبياته منطلقا لحوار عميق من منطلقات معرفية متعددة حول نموذج المجتمع المدني التعددي الذي نريد لتونس والذي يجب أن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وأن يؤمن بالحق في الاختلاف الفكري والثقافي والمذهبي وحتى الديني. فنحن أمة "لا إكراه في الدين" وأمة "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".
ولا شك أن العديد من القضايا المختلف فيها في مسألة الحريات الفردية والمساواة لا تحسم بقرارات سياسية بل بحوارات وطنية تجمع المفكرين والسياسيين والحقوقيين بمختلف أطيافهم. وهي من القضايا المسكوت عنها سواء لغيابها في المدونة التراثية أو لتعلق نشأتها بالإطار الحضاري الغربي المغاير.
فهي لذلك تفرض تأويلات جديدة تجمع بين الكونية والخصوصية والتطلع إلى النهوض بالكرامة الإنسانية. فلا أحد من أهل الاختصاص ينكر جدة مسألة المدنية في الفكر الإسلامي اليوم الذي لا يزال حبيس ضوابط السياسة الشرعية للقدامى.
ولا أحد ينكر المشكلات الجديدة المتعلقة بالأسرة سواء بالعلاقة مع المساهمة الكبيرة للمرأة في النفقة وتنامي العنف الزوجي والاعتداء على حقوق الطفل والمتاجرة بالبشر، وهو ما يستدعي تطوير النظر الفقهي والتشريعي عامة، والخروج من العلاقة العدائية بين الشريعة والقانون.
كما لا يمكن أن تحسم مسألة الحريات بحرب البيانات والمظاهرات باسم حماية الدين أو حماية الحداثة، بل تحتاج إلى الكثير من التعقل حتى نفكر في مستقبل وطن يسع الجميع، إذ لا مستقبل للسلم الاجتماعي دون تأسيس لتوافق اجتماعي بين نخب البلاد الفكرية كلها وتجسير العلاقة بين أهل الهوية وأهل الحداثة، فلا معنى لهوية مغتربة عن واقعها الحداثي ولا مصداقية لحداثة منبتة عن ثقافتها الأصيلة.