رواية " ماركوندا " رفع الستار عن المرأة التونسية

Photo

أود في البدء أن أوجه شكراً خاصّاً إلى الزميل الصحفي والكاتب "الطاهر العبيدي"، مؤسس "المركز الدولي للتواصل الإنساني" في باريس، الذي دعاني إلى محاولة التطرّق إلى موقع المرأة التونسية في كتاب "ماركوندا أو احتمالات سجين سياسي" لمؤلفه "مراد العوني العبيدي". حيث كان للأستاذ الطاهر العبيدي دوراً محورياً في التعريف بالإنتاج الأدبي لسجناء الرأي في تونس ما بعد ثورة الكرامة، باعتباره اشتغل سابقاً ولعدّة أعوام حول قضايا وهموم ملف المساجين السياسيين التونسيين والمهّجرين، فكان سنداً لهم أيام المحنة حين كان بعض "المناضلين المزيفين" يجمعون المال ويرتزقون من عذابات الضحايا، ويستثمرون مآسيهم في بورصة السياسة والنخاسة، إذ كان صوته عالياً مدافعاً عنهم، وعن عائلاتهم بشراسة في المنابر الإعلامية العالمية، التي لم تكن متاحة إلا لمثل من كان جديراً بها، خصوصاً في تلك السنوات التي لم تكن فيها الهواتف الذكية ولا منصات التواصل الاجتماعي موجودة في تلك الفترة، فقد ظهرت هذه التقنيات للوجود حديثاً، فكان مقاتلاً بقلمه من أجل شعبه ومن أجل الحرية، وحتى لا أتهم بالمحاباة أدعو الجميع إلى الاطلاع على إنتاج هذا الرجل آلاف المقالات، مئات الحوارات والعرائض والنصوص الرائعة المفجوعة بالمحنة، والتي ساهمت بالتعريف بالمأساة التونسية، وكانت كتاباته سفن نجدة لكسر طوق الحصار عن شعب تونس الذي كان تحت وطأة الدكتاتورية المقيتة.

لقد طلب مني هذا الزميل الاطلاع على كتاب "ماركوندا" لأحاول إنجاز هذه المقاربة من وجهة نظري أولاً كإعلامية تعي جيدا معنى قيمة الحرية، وثانياً كامرأة عربية مقيمة في مجتمع غربي، ولكنها بقيت مشدودة إلى همومنا العربية المتناسلة، وثالثاً لأني وجدت في رواية "ماركوندا أو احتمالات سجين سياسي"، جرأة وشجاعة في اقتحام بعض القضايا الحرجة من طرف الكاتب "مراد العوني العبيدي" الذي كان كاتباً ثائراً على المألوف، وكاتباً يستحق القراءة والاعتناء بما ينشره.

الاستبداد عقلية ضدّ عامة الناس

الملاحظ أن الاعتقالات التي حصلت في عهد الدكتاتور "بن علي"، لم تكن في جوهرها إقامة"دولة القانون"، مثلما يتغنّى به عبر وسائل الحشد الإعلامي الموالي لترسيخ القبضة الحديدية في ذلك العهد، بل كانت عنفاً يدار بأمر من النظام الحاكم ذي العقلية التعسّفية ضدّ الناس عامةً، وضدّ المثقفين خاصة، بغية تطويعهم للانصياع والقبول بسلطة المستبد والخضوع المطلق، ومن يجرؤ على الاعتراض يصنّف ضمن حظيرة أعداء الوطن، فيكون مصيره السجن والتعذيب أو القتل البطيء أو الفرار من البلاد. وبذلك تختل المفاهيم، وتصير المواطنة مواطنة مغشوشة، ظاهرها ولاء كاذب وتمجيد للمستبد تحت الرعب والخوف، أو شكلاً من أشكال النفاق النفعي، وباطنها نقمة وامتعاض، ليخلف هذا الواقع المضطرب حالة عامة من النقمة التي تأجّجت إلى أن بلغت ساعة الانفجار في وجه هذا النظام الطاغي، فكانت الانتفاضة الشعبية العفوية في 14 جانفي 2011 عاصفة في وجه المستبد "بن علي"، الذي لم يجد حلاً سوى الفرار تجنباً وخوفاً على حياته من الغضب الشعبي الصاعق.

المرأة العربية ضحية الذات أم المحيط

يتسم محيط المرأة في البلاد العربية والإسلامية بالقسوة والتبعية، بسبب وجود قطاعات واسعة من النساء تقف ضدّ إجراء تغييرات بنيوية تطال الذهنية الذكورية المتحكمة، حيث لم تكن لديها النية الحقيقية في العمل على تبديل أوضاعها، كما على المنظمات النسوية أن لا تصادم هوية المجتمع، وتعتمد القيم والمبادئ الأخلاقية كي تستطيع المساهمة من مواقعها في كسر حالة الجمود، واستعادة الأدوار المسلوبة للمرأة العربية والإسلامية.

المرأة التونسية طبعت الحاضر والتاريخ

من يورّق بعضاً من صفحات تاريـخ تونس يكتشف دور المرأة التونسية ومساهمتها الرائدة في المقاومة، منذ أيام "اليسار" وعلى سبيل الذكر، "ملكة قرطاج" التي أحرقت نفسها كي لا تسلم جسدها لملوك البـرابرة، كما كان للمرأة التونسية شرف إنجاب نساء ورجال صاروا فخر العرب والعالم، كما أثبتت قدرتها في الفعل ضمن أكبـر المـحافل العلميّة، والمشاركة في أهم المؤسسات الاجـتماعية، والانخراط في الأطر الاقتصادية والسياسية المهمة.

الفجوة بين الرجل المرأة صناعة أم اختيار

لا ننكر وجود أغلبية ساحقة من النساء التونسيات اللواتي يؤيدن تحكم الذهنية الذكورية الطاغية في المجتمع التونسي، مختبئين خلف الحواجز النفسية الاجتماعية والدينية، مما يعكس الفجوة القائمة بين المرأة والرجل، والتي تطورت إلى حالة تنبأ بالانقسام، بين أنثوي مضطهد ومنقوص الحقوق، وآخر ذكوري تسلطي، مناهض لتحرّر وتطلعات المرأة، وتمكينها من مراكز القرار السياسي والمجتمعي.

وبالمقابل لا ننكر أيضاً أن هناك شريحة كبيرة من الرجال التونسيين المساندين لتموقع المرأة التونسية، واعتبارها نصف المجتمع الذي بدون تفعيل دورها يصبح كسيحاً ومعتلاً نصفياً، والكاتب "مراد العوني العبيدي" من خلال كتاباته هو أحد المناصرين لقضايا وتطلعات المرأة التونسية.

تضحيات تفوق مستوى الرجال

أهم الشخصيّات النسائية الرئيسية التي عالجها الكاتب "مراد العوني العبيدي" في روايته "ماركوندا أو أحتمالات سجين سياسي" هنّ: "السيّدة الأمازيغية"، والدة البطل الرئيسي "سالم"، وزوجته "فاطمة"، و"فيكتوريا" الطبيبة الفرنسية التي عشقته بعد نجاحها في معالجته من مرض الإخصاء، وإحدى "التلميذات" السجينات المظلومات، بالإضافة إلى بعض النماذج الحية عن المرأة التونسية التي ذاقت طيلة عهود "بورقيبة" و"بن علي" أشدّ أنواع الاضطهاد تمثلت في السـجون، التشرّد والاستشهاد، وبقيت صامدة بوجه الطغيان والقهر والبطش، وتـحمّلت خسائر باهظة هي بمثابة نياشين شرف على أكتاف نساء تونس.

الكاتب يصطف للإنسان

يروي الكاتب "مراد العوني العبيدي" بشيء من الانفتاح الإنساني أنّ والدة "سالم سيدة "امازيغية" مثقفة سليلة شعب عريق في الحضارة الإنسانية، وكثيراً ما "كانت تذكّره بأجداده المقاومين وأصولها الجزائرية، كانت تقول أنا من الغرب، من بلاد الأمازيغ، أنا ابنة الكاهنة، أنا رفيقة جميلة بو حيرد".)ص 10(.كما كانت تغرس في روحه الوعي بالقراءة والمعرفة والاطلاع، ويذكر الروائي "مراد" أيضاً أن والدة "سالم" ربّت ولدها تربية إسلامية، فشبّ متمسكاً بالإسلام عقيدة وسلوكاً، ملتزماً بقيم الإسلام، دين التسامح والمحبة والسلام.

"فاطمة" زوجة "سالم" رمزا لصمود "الحراير"

البطولة الثانية في الرواية أسندت لشخصيّة "فاطمة" المناضلة المستميتة التي عاشت حياة مليئة بالمتاعب بسبب زواجها من "سالم" المناضل السياسي والعسكري، وهي كذلك من الناشطات سياسياً سنوات التسعينات، فكانت مرافقة لزوجها الذي تولّى مسؤوليات قيادية في الانقلاب على نظام "بورقيبة"، وقد كانت "من نفس الاتجاه وتتفق معه في الأفكار"(ص 12 ).

لقد جسّد الروائي في هذه الشخصيّة الاستثنائية المطبوعة بقيم الوفاء، شخصية المرأة الشجاعة التي ضحّت بكل ما تملك في سبيل الاستماتة في الدفاع عن زوجها وطفلها الذين كانا جزء لا ينفصل من دفاعها عن الوطن السبي. كما جعل الكاتب من شخصية فاطمة المرأة التونسية الحبيبة، الزوجة، والأم شخصية نابضة بالحياة والأمل وروح المبادرة.

"فيكتوريا" امرأة مؤثرة في تعديل المفاهيم

شخصية "فيكتوريا" تأتي في المرتبة الثالثة حسب تسلسل الشخصيّات الرئيسية في الرواية، فهي طبيبة فرنسية تربّت على التقاليد المسيحية، وتنتمي إلى العالم الأوروبي، تمتاز بالأناقة والشخصية الميّالة للتحاور الثقافي، وهي ذات ميولات شيوعية تناضل من أجل خدمة الإنسان مهما كان دينه ولونه وانتماءاته.كانت تتحاور فكرياً وسياسياً مع مريضها "سالم" وتهتم بوضعه كإنسان، ولأنها الجمال الناعم والأنثى العاشقة فقد قدّمت دعماً معنوياً لحبيبها "سالم" ولشعبه التونسي، كما أعادت له حيويته الذكورية، وبعد مدّة قصيرة على شفائه حبلت منه، ورافقته أثناء عودته إلى أرض الوطن حين صار البلد لا يضيق باستقبال أبنائه المنفيين، وقد وعدت حبيبها "سالم" أكثر من مرّة بأنها ستعيد "تصحيح أسطورة ميلاد الحياة "وسنعيد بناء مجد من سبقونا بالوجود، سيكون ميلاد "ماركوندا" يوم الإنسان وسنجعل من التيبيروس معبداً للتائبين" ( ص.130).

فظاعات تتجاوز العبارات

يروي لنا الكاتب "مراد" قصّة معاناة إحدى السجينات ليلة الدخلة مع عريسها، والكوابيس التي تلاحقها، والتي ذاقتها أثناء سجنها يوم كانت شابة تبلغ الحادية والعشرين من العمر، بسبب وشاية كاذبة، وقد تلقت سيلاً من الشتائم وتهديدات بالانتقام منها ومن عائلتها،وقد تعرضت للتحرش داخل السجن أثناء تعذيبها من أحد الجلادين مثلما جاء في هذا المقطع " يمرّر يديه أوسط الفخذين ويولج كمرة سهمه أثناء التعليق وضع الدجاجة…ويضغط على مؤخرتي بسهمه فيدنس جسمي بمائه الآسن" ( ص66 لتحيلنا على فصل آخر يوم انتقلت إلى زنزانة جديدة تضمّ حوالي خمسة من مثليات الجنس، وعن "الكبرانة" التي كانت تسبّ السجينات، والتي كانت " تمارس السحاق مع أصغر السجينات، تضعها على السرير كالجارية وتمارس معها اللذة كالوحش" ( ص70)، وقد أصبحت الشابة تعيش حالة من التوتر الدائم، بسبب الأذى المعنوي الذي لحقها من خلال معايشتها لمشاهد الجنس والعنف والرذيلة داخل قبور السجن المظلم.

نساء يستحقنّ التكريم والاعتراف

لم يغفل الكاتب عن إبراز معاناة بعض السجينات التونسيّات، كما لم يتأخر عن سرد قصص المئات من المناضلات التونسيات خارج السجن، اللواتي تحركن في السنوات الأولى من التسعينات، حين كان الأزواج أسرى يواجهون القهر والعذاب، حيث كانت "الأخت المحجبة، والفتاة الحرّة المقاومة للاستبداد، في باحات الجامعة، وشوارع الوطن، عنوان شرف، وعنوان رجولة". ( ص72).

وأشار إلى اللواتي اضطررن إلى إعلان الصيام أكثر من مرة تضرعاً إلى الله كي يفرّج هذه الغمّة، والاعتصام في أكثر من مكان، وإعلان الإضراب عن الطعام تضامناً مع المعتقلين، وقد شاركت شخصيّاً في باريس ضمن بعض هذه الاحتجاجات، المساندة لنساء تونس السجينات منهن، أو من كانوا رهائن لم يسمح لهن بالالتحاق بأزواجهن في المنافي الأوروبية، في وقفات تضامنية ومساندة، كانت حاضرة فيها بعض الوجوه المعروفة من أمثال الدكتور منصف المرزوقي - والصحفي الطاهر العبيدي - والمؤرخ الدكتور منذر صفر، والحقوقي الأممي القس "مون سينيور قايو"… وغيرهم من الحقوقيين والسياسيين المعارضين التونسيين والعرب والأجانب، من أجل إجلاء هذه المظلمة.

نضالات المرأة التونسية نموذج للتبصّر

لقد قدّم الكاتب "مراد العوني العبيدي" في روايته "ماركوندا أو احتمالات سجين سياسي" صورة مشرقة للنضال الأنثوي للمرأة التونسية، كنموذج للقرّاء العرب وغيرهم، كي يدركون قدرة المرأة التونسية على التحمّل والمقاومة والصمود، وقد أفرز الكاتب مساحة هامّة لإبراز هذا الدور الناصع للمرأة التونسية من خلال عيّنات وأحداث حقيقية، وفاءً لتضحياتهن ولمواقفهن الجريئة والمشرّفة، وإنصافاً للتاريخ الوطني التونسي.

رواية منتفضة على المتداول والمعهود

بين السطور والفقرات، نستطيع أن نستوحي أن الكاتب "مراد العوني العبيدي"، من خلال روايته ماركوندا المنتفضة على المتداول والسائد والمعهود، معتبراً بالتلميح والتصريح أنّه لا ينقص وصول المرأة التونسية لموقعها الطبيعي ضمن الإطار السياسي والمجتمعي، سوى تمدّد دائرة الرجال المناصرين لقضاياها، وصولاً لتبنّي المرأة نفسها لقضيتها دون صدام أو قطيعة فكرية مع دعاة الدور التكاملي لها مع الرجل،" لينتهي الصراع دون قتل للإنسان ودون سبي للنساء ودون اغتصاب للصبايا ودون سفك للدماء" ( ص.130).

مبادرات قوامها الوعي والانتقال

لم يكن الكاتب راوياً للإحداث المجردة، بل كان شريكاً في الوعي بضرورة دعوة نساء تونس إلى عدم الانزواء، وأشراك الرجل بفعالية في حملات المناصرة، معتبراً أن تأسيس المبادرات التي يقودها الرجال أو تلك التي يكون لهم فيها أدوارا أساسية من أجل تصحيح المسارات المجتمعية القائمة في تونس، ستكون على شكل انتفاضات هادئة قوامها الوعي والضمير، ضمن مبادرات حداثية لا تنسف خصوصية المجتمع التونسي، ولا تتصادم مع هويته، بل تدعمها وتثريها.


نينار شانغري: إعلامية

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات