تكمن أهمّية القول في التسامح في كون هذا المفهوم بمثابة عدسة اختبار لكلّ إشكالية الحداثة في تاريخ الإنسانية منذ نهاية القرون الوسطى إلى اليوم. وهي قرون لا تريد أن تنتهي في عديد الثقافات. غير أنّه من المنصف أن نشير إلى أنّ تاريخ فكرة التسامح ليس حديثا فقط، بل كلّ الثقافات غير الحديثة قد عرفت إرهاصات ومحاولات خاصة حول مسألة التسامح. وذلك لسبب وجيه وهو أنّه لا يمكن التفكير في التسامح دون الزوج المفهومي المرتبط به ضرورة، نعني مفهوم الاضطهاد. وهكذا فإنّ تاريخ التسامح هو بشكل بنيوي يعكس تاريخ الاضطهاد الديني ويتواشج معه. ويمكن أن نقرأ تاريخ مفهوم التسامح في ثلاث خطوات أو أسئلة متمايزة:
أ- كيف كانت الدول قبل الحديثة (الفرس، اليونان، الروم، المسلمون، ..) تطرح مسألة التسامح مع «الآخر» الديني بخاصة؟
ب- كيف صاغ فلاسفة الحداثة مفهوم التسامح بوصفه أحد مبادئ عصر التنوير؟
ج- بأيّ وجه عاد الفلاسفة المعاصرون إلى إعادة تأهيل مفهوم التسامح في خضمّ ما يسمّى «عودة الديني»؟
الآخر ليس عدوّاً بالضرورة
لم يكن التسامح في العصور القديمة مشكلا يهمّ «الفرد» بل الدولة وبعامة هو يهمّ «الجماعة» المدنية أو الدينية التي ننتمي إليها. بل إنّ موضوع التسامح لم يكن يهمّ الفرد داخل جماعته بل فقط يهمّ «الغريب». وكتب العهد القديم تحتوي على عدد كبير من الآيات التي تقنّن طرق التعامل مع الغرباء. وهو معطى حاولت الفيلسوفة جوليا كريستيفا أن تستنبط منه فلسفة في التسامح تقوم على أنّ كلّ البشر غرباء وعليهم أن يدخلوا في حوار بين الهويات بوصفها كلّها هويات غريبة.
وحسب العهد القديم أيضا فإنّ كورش الأكبر، ملك الفرس، كان يعتقد أنّه حرّر اليهود من الأسر البابلي (539-530 ق.م.) في ضرب من الالتزام بأخلاق الغرباء، وهم يثنون عليه ويصفونه بالتسامح. وهو وضع تمتّع به اليهود أيضا في مدينة الإسكندرية اليونانية (المؤسسة سنة 331 ق.م.) بوصفهم جماعة دينية غريبة تعيش في مساواة مع السكان المصريين واليونانيين، اعتبرها الفيلسوف الأميركي ميكائيل والزر مثالاً مفيداً كي نفهم ملامح صيغة إمبراطورية من التعدد الثقافي بين المواطنين. وهو وضع لم تخل منه الإمبراطورية الرومانية التي كانت تشجّع الشعوب الخاضعة لسلطتها على أن تواصل عبادة آلهتها الخاصة.
وكان ذلك جزءا حاسما من البروباغندا الرومانية. ولم يكن يتمّ اضطهاد المسيحيين إلاّ لأنّهم كانوا يجدّفون على آلهة روما ويرفضون تمجيد الامبراطور بوصفه إلهاً. وذلك كان إلى حين، حيث إنّه مع سنة 311 للميلاد عمد الإمبراطور الروماني نفسه، غاليريوس ماكسيمينوس، إلى سنّ مرسوم عام يقضي بنهاية اضطهاد المسيحيين حمل اسمه ومنح المسيحية لأوّل مرة منزلة «الدين المسموح به» (religio licita) بجانب الدين الروماني والدين اليهودي.
وهو وضع أخلاقي وقانوني كرّسته الخلافة الإسلامية من خلال مفهوم «أهل الذمّة». ومفهوم «الذمّية» يمكن اعتباره الصيغة المكتملة أو القصوى من طروحات الدول والجماعات قبل الحديثة لقضية التسامح مع الآخر بوصفه غريبا داخليّا، أي مشاركا لنا في مساحة العيش دون أن يكون «منّا» بالمعنى الهووي.
هو جزء من شكل حياتنا أو نموذج عيشنا لكنّه ليس جزءاً من عناصر هويّتنا الخاصة. لكنّ ذلك يعني أنّ التسامح هو هنا وضع قانوني وليس له أيّ جوهر روحي. هو تسامح بلا موضوع. ولا يبدو أنّ العصور اللاحقة ولاسيّما في البلاد الأوروبية إلى حدّ نهاية العصور الوسطى هي قد أضافت تأطيراً جديداً لمسألة التسامح. كان الوضع حول التسامح يتعلق في كل مرة بتحديد منزلة مخصوصة للآخر ولكيفية التعامل معه دون اضطهاده.
إلاّ أنّه يمكن التأكيد على أنّ الدين إنّما كان دوماً هو الخيط الإشكالي بأيّ طرح قانوني حول التسامح: في طور أوّل كان الآخر يهوديّاً (وهو وضع التسامح في نطاق الدولة الفارسية ثم اليونانية)، وفي طور ثان كان الآخر مسيحياً (وهو وضع التسامح في أفق الدولة الرومانية)، وفي طور ثالث صار الآخر متعدّد الثقافات والأديان، كان يهودياً ونصرانياً ومجوسياً وصابئة، الخ...، ولذلك كان ينبغي استجماعه في الوصف الفقهي الشهير «أهل الذمة».
وهو تغيّر حاسم في وضعه القانوني: إنّه لم يعد يحمل توقيعاً هوويًّاً خاصاً (يهوديّا مثلا أو مسيحيّا، الخ.) بل صار مصنَّفا في مجموعة واسعة من «الآخرين» الدينيين ليس لنا أن نتعامل مع هوياتهم الخاصة بل علينا أن نحترم نوعاً من «المعاهدة» القانونية حول الاختلاف معهم بوصفهم «مواطنين» من درجة معيّنة يساووننا في أشياء (المجال الدنيوي) لكنّهم لا يساووننا في أشياء أخرى (المجال العقدي). وما عرفه المسلمون تحت مسمّى «صحيفة المدينة» التي وُضعت سنة 623 للميلاد (والتي تُعتبَر أوّل تقنين مدني لقضية التسامح بين الطوائف والأديان في تاريخ أنفسنا العميقة) إنّما كان بمثابة تحديد للمفردات والحدود القانونية الأساسية للعيش المشترك داخل الاختلاف بين جملة من الهويات أو الآخرين المتمايزين دينيّاً. -
وبلمحة سريعة ما يجدر بنا الاحتفاظ به من تلك الصحيفة أمران حاسمان: أوّلهما أنّ التسامح لا يقف عند «أهل الكتاب» فقط بل هو لا يخلو في بند من بنود الصحيفة من أن يشمل الوثنيين أيضاً في نوع من الـ»جوار» المدني الذي يتجاوز الاختلاف الديني، وخاصة فيما يتعلق بالمال والنفس، وثانيهما أنّ التمايز الديني لا ينفي أنّ الدفاع عن المدينة يجب أن يكون جماعيّاً بين جميع الطوائف المشاركة في الصحيفة، وهو تأسيس لطيف لفكرة «الوطن» بوصفها قيمة معنوية تهمّ الحياة المشتركة وتوجد فوق الأديان والطوائف المختلفة.
تسامح المحدثين
ما بين القرن الثالث عشر والقرن السادس عشر طوّر الأوروبيون مدوّنات قانونية بغرض حماية حرية الأديان. وقد رصد مؤرّخو الأفكار الحديثة خطّا متصاعدا من الوقائع الحقوقية التأسيسية لنوع من «أهل الذمّة» المحدثين، من قبيل 1264 (معاهدة كاليتسز أو المعاهدة العامة للحريات اليهودية في بولونيا) أو 1348 (عندما سنّ البابا كليمنت السادس مرسوماً لحماية اليهود أثناء الوباء الأسود ويحرّم على الكاثوليك قتلهم). وهي خطوات حقوقية ساهمت بشكل حاسم في انتشار أفكار غير مسبوقة حول «حرية التديّن» و«حرية الضمير» في جوّ ثقافي أخذت تغلب عليه النزعة الإنسانوية كبديل أخلاقي وأدبي عن ثقافة الملّة المسيحية التي كانت بمثابة المرجع أو المذهب الروحي الوحيد لمصادر الذات في أوروبا.
وفي هذا الجوّ الإنسانوي أخذت فكرة التسامح في التشكّل والتبلور على نحو حثيث وغير قابل للسيطرة. ومنذ مطلع القرن الخامس عشر بدأت تظهر آداب التسامح: مثلاً في بولونيا حيث كتب باولس فلاديميري (في مجمع كونستانس، 1414) رسالة في سلطة البابا والإمبراطور فيما يخصّ الكفّار، بسط فيها نظرية التعايش بين البلدان المسيحية وغير المسيحية، أو في هولندا حيث كتب إيراسموس (1466ت.)، أحد روّاد الحركة الإنسانوية، الذي يقول بأنّه «أحسن أن نشفي المريض من أن نقتله»، أو توماس مور الذي طمأن سكّان اليوتوبيا (1516)، المدينة التي لا توجد في أي مكان، بأنّ الطوباويين يمكنهم أن يتّخذوا ما شاءوا من المعتقدات الدينية المختلفة دون أن تضطهدهم أيّة سلطة.
– هذا التواتر حول فكرة التسامح مع الآخر الديني، غير المسيحي بعامة، قد أدّى إلى ظهور حركات الإصلاح، وخاصة الحركة البروتستانتية التي جعلت من «حرية الضمير» شعارا أساسيّا. وفي المجمع الإمبراطوري (الذي انعقد في ألمانيا سنة 1521) لم يجد مارتن لوثر من وسيلة للدفاع عن نفسه ضدّ تهمة الزندقة غير مقولة «حرية الضمير» التي تحوّلت بسرعة إلى بيان أخلاقي شمل كلّ ثقافات أوروبا. وقد أسّس لوثر هذه الفكرة على اعتبار أنّ الإيمان هو هبة حرّة من الله وأنّه لا يمكن إكراه أحد عليه، ومن ثمّ لا يجدر بنا الانتصار على الهراطقة بالنار بل بالمواعظ المكتوبة.
وفي أواسط القرن السادس عشر صار يمكن التساؤل الرسمي حول أحقية أيّ سلطة في محاكمة الملحدين، وهو ما كرّسه سيباستيان كاستليو، البروتستانتي الفرنسي، الذي نشر سنة 1554 تحت اسم مستعار رسالة عنوانها ما إذا كان يحقّ لأحدٍ اضطهاد غير المؤمنين، وهو كاتب يؤثر عنه عبارة: «أن تقتل إنساناً لا يعني حماية مذهب ما، بل أن تقتل إنساناً فحسب».
وبالطبع لم يكن ذلك دعوة ماجنة إلى مجرّد الإلحاد أو الهرطقة بل فقط التنبيه إلى أهمّية حرية الضمير في تأمين مطلب التعايش السلمي بين المختلفين دينيّاً. وهو مطلب جسّدته كتابات حواريّة أخذت تجمّع المختلفين وتحوّلهم إلى شخصيات سردية كان القصد الروحي من ذلك هو بلورة شروط العيش المشترك القائم على فكرة التسامح المتبادل. ومن أفضل الأمثلة ما افترعه جان بودان، الكاثوليكي الفرنسي، في كتابه ندوة العلماء السبعة الذين لهم مشاعر مختلفة حول أسرار الأشياء الموحى بها، وهو كتاب حرّره المؤلف ما بين 1587 و1593 لكنّه بقي مخطوطاً تتداوله الأيدي الحرّة إلى أن ظهرت نشرة جزئية له في سنة 1841.
وهؤلاء السبعة ينتمون إلى الديانات الثلاث المختلفة (اليهودية والمسيحية والإسلام) جسّدوا ذلك في شخصيات سردية اجتمعت في مدينة البندقية رمز التسامح والمواطنة العالمية في ذلك العصر. وكانت النتيجة العليا أن بدأ يظهر تمييز حاسم بين ضربين من التسامح: التسامح المدني والذي يهمّ سياسة الدولة تجاه المعارضة الدينية، والتسامح الكنسي والذي يهمّ درجات التنوّع الديني الذي يمكن لكنيسة مفردة أن تتسامح معه.
وهو ما كرّسته مجموعة حثيثة ومتتالية من المراسيم والمعاهدات حول سياسات التسامح مثل «مرسوم توردا» سنة 1568 حول التسامح الديني الكاثوليكي مع كنائس الأرثوذكس (المجر) أو مرسوم الإمبراطور الروماني ماكسيمليان الثاني حول التسامح الديني مع نبلاء النمسا أو «مرسوم نانْت» الذي أعلنه ملك فرنسا هنري الرابع سنة 1598 مع البروتستانت.
لكنّ ما عابه التنويريون على هذا النوع من التسامح المدني أو الديني هو كونه لئن كان ينحو نحو إقرار قيمة التسامح بين الطوائف المتنازعة على المقدّس فهو لا يعترف للأفراد بالحق في حرية التديّن. ومن ثمّة يمكن دوما ملاحظة الفرق الخطير بين فكرة التسامح وبين الحق في الحرية الدينية.
وهو اعتراض حقوقي وأخلاقي سوف يجد في فلسفة عصر التنوير هالته العليا. فنحن نقرأ عندئذ ما نشره جون ملتون (ت. 1674)، وهو بروتستانتي انجليزي سنة 1644 تحت عنوان خطاب في حرية الطباعة غير المراقبة موجهة إلى برلمان انجلترا. وهو نصّ يكرّس «حرية المعرفة والتعبير والنقاش بحرية طبقاً للضمير فوق كل الحريات الأخرى».
وإن كان هذا الحق لا يشمل الملحدين واليهود والمسلمين وحتى الكاثوليك، إلاّ أنّه أنشأ نوعاً جديداً من الحق وحوّله إلى مادة للنقاش العمومي تحت مقولة الفرد التي باتت هي موضوع التسامح، وليس سياسات أو مراسيم الدولة أو الكنيسة.
ويمكن اعتبار النصف الثاني من القرن السابع عشر هو الحقبة الحاسمة التي تبلورت فيها ملامح فلسفة في التسامح. وهو طور يمكن ملاحظة قوّته الإثباتية في كتاب سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة (المقدمة والفصل الأخير) المنشور تحت اسم مستعار سنة 1670، حيث تحوّلت حرية التفكير أو التفلسف إلى مشكل قائم برأسه فتح المجال أمام تقاليد نقد اللاهوت السياسي في أوروبا. وهو أكبر دفاع فلسفي حديث ضد تهمة الإلحاد باسم حرية الرأي.
وهكذا لم يأت الفلاسفة إلى الخوض في مسألة التسامح إلاّ في عصور متأخّرة، حيث إنّ أوّل التصانيف المفردة إلى هذا المفهوم لم تظهر إلاّ في ثمانينات القرن السابع عشر، مع انتشار كتابات فلسفيّة متزامنة أمضاها كلّ من جون لوك (رسالة في التسامح، 1686) وبيار بايل (في التسامح- تعليق فلسفي، 1687)، صارت بسرعة شديدة بمثابة مراجع رسمية لآراء كلّ مفكّري عصر التنوير حول التسامح، من قبيل ما كتبه فولتير (رسالة في التسامح، 1763) أو ليسنغ (ناتان الحكيم، 1979). لكنّ هيغل- الذي لم يكن له قول خاص في التسامح مثل بقيّة أقرانه في القرن التاسع عشر، عصر الدولة - الأمة الإمبراطورية - قد علّمنا أنّ الفلسفة هي مثل بومة مينيرفا لا تأخذ في الطيران إلاّ في الغروب، عندما يكون عالم أو عصر ما آذن على النهاية.
وليس ذلك العالم أو العصر غير ما درج المحدثون على تسمية باسم «العصور الوسطى»، أي عصور الملّة الدينية في تلويناتها الإبراهيمية المختلفة، والتي بلغت حضيضها الأخلاقي في صيغتها الأوروبية في ما سُمّي «حروب الأديان» والتي أعقبت ظهور حركات الإصلاح البروتستانتية وامتدّت ما بين 1517 و1648 لكنّ الاضطهادات الناجمة عنها لم تمّح في فرنسا مثلا حتى تمّ إيقافها تحت حكم لويس السادس عشر سنة 1787. وهو عصر أغلقته الثورات الأوروبية حين سلّمت مهمة تشكيل هوية «الفرد» الحديث إلى الدولة - الأمة التي فرضت بصمة أخلاقية بلا تسامح إلى سنة 1945.
استئناف المعاصرين لفكرة التسامح
كان «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» سنة 1948 بمثابة تغيير في براديغم النقاش حول التسامح، وهذه المرة على مستوى الإنسانية. وفي الفقرة 18 منه نحن نقرأ: «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة». – ربما لم يفعل الفلاسفة منذئذ سوى شرح هذا البند وترجمته في مسائل حقوقية وأخلاقية مفصّلة حسب التنوع الهووي والثقافي لكل شعب أو جماعة.
وعلى ما ينطوي عليه هذا الإعلان من تركيز على قيمة «الشخص» و»الحريات الشخصية» فإنّ موضوع التسامح لم يعد «الفرد» بل «حقوق الإنسان» التي يمكنه التمتّع بها داخل الجماعة التي ينتمي إليها. وهذا يعني أنّ رهان التسامح ليس الفردانية بل نموذج العيش أو شكل الحياة المشتركة التي تكفل الحق في الحرية.
إنّ المشكل هو أنّ هذا الإعلان حول الحريات الشخصية لا يُقرأ بنفس الرهانات قبل وبعد ظهور ما يسمّى «عودة الديني» في أفق الغرب ما بعد الحديث، كما وصّف ذلك جيل كيبال في كتابه ثأر الله. مسيحيون ويهود ومسلمون في إعادة غزو العالم (1991) أو ما سُمّي في كتابات كثيرة «إعادة السحر إلى العالم» ما بين 1994 و2009.
ويمكن أن نؤرّخ للاستئناف الفلسفي للنقاش حول التسامح بما وقع قبل وبعد انهيار جدار برلين (1989) وانطلاق نزاعات الاعتراف لدى شعوب أوروبا الشرقية من عقالها الدكتاتوري (فوكوياما، أكسيل هونيت، ..).
ما قبل، كان النقاش الغربي حقوقيا، أي يتعلق بحق الأفراد أو الأقليات في حريات شخصية تدور حول قضايا الثقافة والأقلية والجنس حيث تحوّل التسامح إلى قانون. لكنّ فرض التسامح بقانون الدولة هو سوف يؤدي إلى ما سمّاه هربرت ماركوز سنة 1965 «التسامح القمعي» وهي مقالة نُشرت في كتاب عنوانه نقد التسامح المحض. سوف يمنع الناس من مقاومة ما يعتبرونه خطيرا أو مخالفا لحريتهم أو لنموذج العيش الخاص بهم. وهو معطى إشكالي ليس بعيدا عن سؤال جون رولز في نظرية عن العدل: «هل يجب التسامح مع غير المتسامحين؟».
بعد انهيار جدار برلين، دخل نزاع الاعتراف على الخطّ وغيّر مفردات التسامح بشكل مزعج. ما كان شخصيا أصبح هذه المرة هوويّا أو لاهوتيّا. وإذا بوجه «الآخر» ما قبل الحديث أخذ يطلّ بشبحه المخيف بشكل حوّل النزاعات الحقوقية حول الهوية أو الجندر إلى نقاش من درجة ثانية.
وفي هذا الصدد ذهب هابرماس، في مقالة مهيبة نشرها سنة 2002 تحت عنوان «التسامح الديني بوصفه ناظماً للحقوق الثقافية»، إلى أنّ حقوق الإنسان لم تنشأ عن حرية التديّن بل العكس: إنّه لا يمكن إقرار التسامح بوصفه واقعا عمليّا إلاّ إذا كان المواطنون قادرين على العمل بشكل «بيذاتي» (نحت من كلمتي: بيئي ذاتي) حيث يأخذون قراراتهم بعد تشاور حرّ يستطيعون فيه اتخاذ منظورات متبادلة ومصالح مشتركة.
لا يمكن منع عدم التسامح بمجرد إقرار الحق في حرية التدين. ولا يمكن أن تتعايش الحقوق أو الحريات إلاّ داخل تصوّر يحترم تعدد رؤى العالم الثقافية أو الدينية. إنّ التسامح هو وضع حدودي بين نماذج عيش حوّلت تبادل الحقوق الدستورية إلى سلوكات أخلاقية في فضاء عمومي متقاسم بين مواطنين متساوين.
«صحيفة المدينة»..تأسيس لطيف لفكرة «الوطن»
* «صحيفة المدينة» التي وُضعت سنة 623 للميلاد (والتي تُعتبَر أوّل تقنين مدني لقضية التسامح بين الطوائف والأديان في تاريخ أنفسنا العميقة)، إنّما كان بمثابة تحديد للمفردات والحدود القانونية الأساسية للعيش المشترك داخل الاختلاف بين جملة من الهويات أو الآخرين المتمايزين دينيّاً.
وبلمحة سريعة ما يجدر بنا الاحتفاظ به من تلك الصحيفة أمران حاسمان: أوّلهما أنّ التسامح لا يقف عند «أهل الكتاب» فقط، بل يشمل في بند من بنود الصحيفة الوثنيين أيضاً في نوع من الـ «جوار» المدني الذي يتجاوز الاختلاف الديني، وخاصة فيما يتعلق بالمال والنفس، وثانيهما أنّ التمايز الديني لا ينفي أنّ الدفاع عن المدينة يجب أن يكون جماعيّاً بين جميع الطوائف المشاركة في الصحيفة، وهو تأسيس لطيف لفكرة «الوطن» بوصفها قيمة معنوية تهمّ الحياة المشتركة، وتوجد فوق الأديان والطوائف المختلفة.
بيان لوثر الأخلاقي
التواتر حول فكرة التسامح مع الآخر الديني، غير المسيحي بعامة، أدّى إلى ظهور حركات الإصلاح، وخاصة الحركة البروتستانتية التي جعلت من «حرية الضمير» شعارا أساسيّا.
وفي المجمع الإمبراطوري (الذي انعقد في ألمانيا سنة 1521) لم يجد مارتن لوثر من وسيلة للدفاع عن نفسه ضدّ تهمة الزندقة غير مقولة «حرية الضمير» التي تحوّلت بسرعة إلى بيان أخلاقي شمل كلّ ثقافات أوروبا. وقد أسّس لوثر هذه الفكرة على اعتبار أنّ الإيمان هو هبة حرّة من الله وأنّه لا يمكن إكراه أحد عليه، ومن ثمّ لا يجدر بنا الانتصار على الهراطقة بالنار بل بالمواعظ المكتوبة.