شخصيّا غير مقتنع بالمطالبة بزيادة في الأجور لن تسمن ولن تغني من جوع، في ظلّ انهيار المقدرة الشرائية والزيادات المستمرّة في الأسعار. المفروض اذا الشعب يتحرّك، يطالب باستحقاقات الثورة، بالعدالة الاجتماعية والجبائية، بالشفافية، بتكافئ الفرص، بالعيش الكريم.
لكن لا تحاولوا أن تحشروا هذا الشعب في الزاوية، ولا تحاولوا أن تجبروه أن يختار: امّا الاصطفاف مع الحكومة وتحمّل الظّلم والتفقير والتنازل عن حقوقه وعلى رأسها حقّه في العيش الكريم، أو الاصطفاف مع قيادة الاتحاد.
كلّ المحاولات السابقة فشلت. حاولوا أن يخيّروه بين التصدّي للإرهاب أو المطالبة بالحقوق، فكانت أكثر المناطق تهميشا واحتجاجا أشرسها في التصدّي للإرهاب. لم يسمحوا للارهاب ان يستغلّ نقمتهم على النظّام، ولَم يسمحوا للنظام ان يستغلّ الارهاب ليبرّر تهميشه لهم وسلبه لحقوقهم.
هذا شعب يعرف كيف يكسر حصار الثنائيات (إمّا وإمّا)، ويعرف يطالب بحقوقه دون ان يسمح لأحد باستغلال أوضاعه او احتجاجاته، وأظنّه يتّجه للفظ كلّ هذه الطبقة السياسية، بعد أن أدرك أنّهم غير معنيّين به، وأنّه لا ناقة له ولا جمل في صراعاتهم وصفقاتهم.
بالعربي الفصيح، هذا شعب لم يعد مقتنعا بأنّ البلاد فقيرة، وأدرك أنّ إمكانيات البلاد تسمح بحياة أفضل وبالعيش الكريم للجميع، وأنّ المعاناة وانهيار المقدرة الشرائية لا هي كارثة طبيعية ولا قدر إلهي، ولكن بفعل فاعل (نهب، فساد، تهرّب ضريبي، تهريب).
اذا طالبتوه بالتقشّف والصبر والتضحية، فسيقول ابدأوا بأنفسكم. واذا طالبتوه بالإنتاج فسيطالبكم بالعيش الكريم والعدالة الاجتماعية، واذا وعدتوه بازدهار قريب، فلن يصدّقكم (بعد كلّ الوعود الكاذبة)، كما أنّه لا ينتظر أن أي زيادة في الإنتاج او أي تحسّن أو ازدهار سيعودون عليه وعلى الوطن بالفائدة. فقد شهدت البلاد مواسم فلاحية جيّدة، وموسما سياحيّا جيّدا، وانهار سعر البترول (الذي تستوردونه وتدّعون أنّ البلاد لا تنتج كفايتها منه، فماذا كانت النتيجة؟ زيادات في الأسعار بما فيها المحروقات)، وزيادات في الضرائب، وانهيار لقيمة الدينار، ولاحتياطي العملة الصعبة، مع تفاقم العجز والمديونية.
أوصلتم هذا الشعب الى الشعور بأنّه لم يعد لديه ما يخسره أو يخشى عليه. أدمغة وكوادر يهاجرون بعشرات الآلاف، وشباب حلمه الهجرة حتى في قوارب الموت.
تحرّكوا باتجاه الشفافية وتكافئ الفرص والعدالة الاجتماعيّة والجبائية، ومحاربة الفساد والمحسوبية، وإيقاف النّهب والهدر والتهرّب الضريبي. أقنعوا الشعب بوضعه، واحصلوا على ثقته، يصبر ويتحمّل وينتج، ولا يستطيع أحد تحريضه! أزمتكم مع الشعب وهي بالأساس أزمة ثقة.
بصرف النّظر عن الموقف من الإضراب العام، وهل سيساهم في حلّ الأزمة أم في تعقيدها، لا خلاف على فشل المنوال التنموي الذي وصل الى طريق مسدود، وفشل وظلم الحكومات المتعاقبة وسياساتها فشلا ذريعا ومركّبا، أوصل البلاد الى حافّة الهاوية وأوصل أغلبية التوانسة الى وضع معيشي لا يطاق، بعد ان انهارت مقدرتهم الشرائية:
1- فشل في كسب ثقة الشعب، التي لا غنى عنها، لمضاعفة الإنتاج والتضحية والصبر على التقشّف والإصلاحات الاقتصادية المطلوبة (الدواء المرّ). هذا الفشل سببه غياب كلّي للشفافية، وموقف ملتبس ومشبوه من الفساد، يصل الى حدّ شبهة التواطئ والزواج غير الشرعي بين السياسة والاحزاب وبين المال الفاسد.
2- فشل ذريع في محاربة الفساد والتهريب والتهرّب الضريبي، الذي يحرم خزينة الدولة من آلاف المليارات من العائدات، كانت ستخفّف على الطبقات المتوسطة والفقيرة، وتحسّن مستوى المعيشة والخدمات والبنية التحتية.
3- لجوء الحكومات المتعاقبة لترقيع فشلها بإثقال الطبقات المتوسّطة والفقيرة من الموظّفين والعمّال الذين هم تحت رحمة الحكومة (رواتب)، ولا مال لهم يدفعونه للأحزاب. إثقالهم بالزيادات والضرائب، حتّى أصبح الرّاتب في تونس لا يكفي أكثر من 7 أيّام في المعدّل، وأصبح في تونس أكثر من 600 ألف مواطن يعانون سوء التغذية. وإثقال البلاد بالمديونية، بسبب الفشل الاقتصادي، وبدوافع انتخابية (ترضيات).