الإرهاب اللغوي

Photo

ارتفعت بعض الأصوات مؤخرا منادية بتعزيز تدريس اللغة الفرنسية في المدارس بما أنها، على حسب ادعاء البعض هي التي تساعد الأطفال والأجيال الصاعدة، عكس اللغة العربية، على مقاومة الإرهاب هذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد شبابنا وأمننا واستقرارنا. وبقدر ما ابتهجت باحتلال هذه المواضيع الهامة الفضاء العام للحوار والنقاش لمقارعة الحجة بالحجة والتوصل إلى قرار جماعي يهم مسألة حيوية مثل خياراتنا اللغوية بقدر ما اصطدمت بمواقف هشة واتهامات واهية صادرة عن أشخاص لا يزالون يعتقدون أن من حق "النخبة" أو لعله من واجبها أخذ القرارات المناسبة وفرضها على العامة.

أود في البداية أن أطرح بعض المفاهيم اللسانية التي ندرسها للطلبة كمدخل للسانيات العامة والتي لا يختلف فيها اثنان من علماء اللسان. ويتمثل أول هذه المفاهيم في أنه لا توجد لغة جميلة أو أخرى قبيحة أو لغة صعبة أو أخرى سهلة أو لغة غنية أو أخرى فقيرة فلا تعدو هذه النعوت عن كونها تقييمات ذاتية وغير موضوعية فكل اللغات هي عبارة عن "كود" تستنبطه مجموعة لسانية ما للتواصل فيما بينها ويتطور هذا الكود بحكم تطور استعمال هذه المجموعة اللسانية له. وكما أن اللغات تولد وتموت كأي ظاهرة اجتماعية عرفها الإنسان واستنبطها عبر العصور. إن أفراد أي مجموعة لسانية هم وحدهم من يمتلكون الحق في تغيير قواعد اللغة أو مفرداتها ولا يمكن لأي كان أن يفرض عليهم أي تجديد لا يروقهم. يمكن لأي كان أن يستنبط مفردات جميلة وقواعد جديدة لكنها لا يمكن أن تصبح جزءا من هذه اللغة إلا عندما يقبلها كل أفراد المجموعة اللسانية ويدرجونها في زادهم اللغوي وتصبح بذلك جزءا من استعمالهم اليومي.

عرف سكان هذه الأرض الطيبة عبر العصور لغات عديدة بالإضافة إلى الأمازيغية لغتهم الأم سواء عن طريق الغزو مثل الفينيقية والرومانية أو عن طريق الاحتكاك مثل الإسبانية أو اليونانية. وقد دأب البربر على استعمال لغتهم إلى جانب الرومانية إلى فترة متقدمة إلى أن انتهى عهد التعدد اللغوي وأصبحت العربية هي اللغة الأم ولا يتكلم اليوم الأمازيغية إلا عدد ضئيل جدا من التونسيين يتقنونها إلى جانب العربية. وقد عرف التونسيون اللغة الفرنسية باحتلال المستعمر الفرنسي لأراضيهم وفرضه اللغة الفرنسية كلغة السلطة ونشره لها خاصة في المدارس كلغة التعليم فأمن بذلك تزويد أجهزة الدولة بصغار الموظفين وبالمعلمين.

ومن الطبيعي أن ينتج الاحتكاك بالفرنسية توليد كلمات عديدة في اللهجة التونسية من أصل فرنسي وهذه ظاهرة صحية في اللغات إذ من النادر أن توجد لغة لا تتأثر باللغات الأخرى ولا تؤثر فيها. وإن كنا لا نستطيع مساءلة التونسيين عن خياراتهم اللغوية طيلة فترة الاستعمار إذ لا يمكن أن نساءل شعبا مسلوب الإرادة عن خياراته اللغوية فإنه لا يسعنا إلا أن نساءل خيارتنا اللغوية في فترة الاستقلال وبناء الدولة الحديثة ونقيم هذه الخيارات بعد ستين سنة من الاستقلال. لقد اختارت دولة الاستقلال، مثل عشرات الدول حديثة الاستقلال آنذاك، أن تقلد النظام التربوي للمستعمر بحذافيره وكانت النتيجة أن شرّع قانون 1958 تدريس العلوم باللغة الفرنسية "للأخذ بناصية العلوم" ولازلنا نلوك نفس المنطق اليوم من دون أن نشعر بالواجب الوطني والضرورة المصيرية لتقييم خيارتنا اللغوية أو خيارتنا التربوية. هل نجحنا في الأخذ بناصية العلوم؟ هل أفضى تدريس العلوم باللغة الفرنسية إلى أن تصبح تونس بلدا منتجا للمعرفة لا فقط مستهلكا لها؟

كانت الفرنسية ولازالت لغة الطبقة الحاكمة والمتنفذة والتي لا تزال تصر إلى يومنا هذا على الزج بالأجيال الصاعدة في حرب لغوية خاسرة أين توجه الجهود إلى تحقير اللغة الأم وتمييز اللغة الفرنسية لا لشيء إلا لضمان هذه الطبقة انفرادها بالحكم وإقصاءها لأبناء الطبقات الأخرى. إن الإرهاب الحقيقي لهو هذا الإرهاب اللغوي الذي تمارسه حفنة من الفركفونيين الذين لا يزالون يحلمون بالكارتيه لاتن وبالسربون. يصر أفراد هذه الفئة القليلة على اللغة الفرنسية وهم يعلمون علم اليقين أن عدد التونسيين الذين يتقنون لغة موليير وفولتير في تناقص مستمر وفاضح وأن الأجيال الصاعدة فيما عدى أبناءهم وأحفادهم لا ينظرون إلى الفرنسية كلغة هوية بل كلغة تمييز طبقي. خلصت آخر دراسة ميدانية قمت بها إلى أن التلاميذ الذين يدرسون بالمدارس الحرة لا يتقنون الفرنسية لأن هذه المدارس تدرس بطريقة أفضل بل لأن أولياء التلاميذ حريصون على مخاطبتهم بالفرنسية وإصلاح الأخطاء والهفوات التي لا يمكن لا للمعلّم ولا للبرامج تناولها.

مما يعني وبكل بساطة أنه من النادر اليوم أن تجد من يتقن الفرنسية وهو في مدرسة عمومية ريفية كانت أو حضرية أو من ليس لأحد أبويه باع أو ذراع في هذه اللغة. من يعطي لهذه الأقلية الحق في فرض خياراتها اللغوية على المجموعة الوطنية؟ من يعطيها الحق في أن تفرض على ملايين التلاميذ الشعور بالقهر والعجز أمام لغة لا يفهمونها ولا يرون سببا مقنعا في فرضها عليهم؟ هل أتاكم حديث واقع استعمال اللغة الفرنسية في مؤسساتنا التربوية والجامعية بكل أصنافها؟ هل استمعتم مرة إلى مدرس فيزياء أو رياضيات وهو ينطق بلغة هجينة تقف بين المتعلمين وبين المفاهيم العلمية وتمنعهم من فهم ما هو في متناولهم لا لشيء إلا لأن حفنة من صناع القرار دأبوا على اعتبار الفرنسية "أحلى" و"أضمن" لتدريس الأجيال وأن "العلوم إذا عربت خربت"؟

يحق لكل مواطن أن يفضل لغة على أخرى، وأن يحاول حتى أن يستعمل هذه اللغة في محيطه الضيق فهذا من باب الحريات الفردية لكنه لا يحق له أن يفرض خياراته الفردية على المجموعة الوطنية. لا يمكن أن ندستر حق التونسي في التعليم ثم نوفر له الجزء العلمي من هذا التعليم بلغة أجنبية لا يرى فيها الطفل نفسه، تعيقه عن تحقيق ذاته أكثر مما تعينه. من المؤكد أنه قد كانت فيما مضى وولّى للغة الفرنسية مكانة مميزة في نفوس آباءنا وأجدادنا ولكنه لا يمكننا بأي حال أن نتخذ القرارات المصيرية في حق الناشئة بفرض لغة هجينة عليهم لا تعني لهم شيئا لا من قريب ولا من بعيد لا لشيء إلا لأن أجدادهم يحبونها ويفضلونها على العربية لغتهم الأم بل ولعل البعض يتمنى استبدال العربية بالفرنسية في الحياة اليومية.

أيتها "النخبة" الإرهاب كل الإرهاب أن تفرضي خياراتك كأقلية على المجموعة الوطنية وتجبري الناشئة من دون وجه حق على خوض معركة أقل ما يقال عنها أنها ليست معركتهم. الإرهاب كل الإرهاب أن يدرس أطفال تونس العلوم بلغة هجينة لا لسبب إلا لأن أذواق الفئة القليلة تحبذ العلوم بلغة المستعمر. الإرهاب كل الإرهاب أن نفرض على الناشئة هوية لغوية لا تعني لهم شيئا لا لشيء إلا لأن أصحاب القرار ليست لهم لا الجرأة السياسية ولا النزاهة الكافية لقطع الحبل السري مع لغة المستعمر وهم من بلغ من العمر عتيّا في بلد تحصل على الاستقلال منذ ستين سنة. الإرهاب كل الإرهاب أن نستمر في الدفاع عن الفرنسية كلغة علوم والفرنسيون ذاتهم ينشرون بالإنقليزية ويطلبون من الباحثين التونسيين إعادة صياغة مقالاتهم بالإنقليزية. الإرهاب كل الإرهاب أن نبني خياراتنا اللغوية على أذواق البعض وميولاتهم وتخوفاتهم من إغضاب "الحليف" التاريخي والتقليدي في حين أن كل الأدلة العلمية تشير أن الطفل يتعلم بطريقة أحسن إذا ما تشبع بلغته الأم أولا ثم درس اللغات الأجنبية في مرحلة لاحقة وأن تدريس الناشئة العلوم بلغة أجنبية تعيقهم كثيرا عن فهم العلوم ولا تزيد بشرطه من إتقانهم للغة الأجنبية.


*روضة بن عثمان :أستاذة جامعية كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات