صادق مجلس نواب الشعب يوم 25 مارس 2021 على مشروع قانون أساسي عدد 39 / 2018 يتعلق بتنقيح واتمام القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 المؤرخ في 03 ديسمبر 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية والغاية من المصادقة تجاوز عثرة استكمال انتخاب اعضائها المعطل منذ سنوات. لم يختم رئيس الجمهورية مشروع القانون ولم يطعن في دستوريته، بل اختار أن يرد المشروع الى مجلس نواب الشعب وفق حق الرّد المنصوص عليه بالفصل 81 من الدستور.
قيس سعيد يراوغ الجميع
لا أحد كان يتصور أن رد قيس سعيد سيكون على تلك الشاكلة فهو لم يقترح على المجلس في واقع الأمر أي تعديل، بل تضمن مطعنا شكليا خارج الموضوع خطيرا لا في ذاته وإنما في النتائج التي سيؤدي اليها كما سنرى لاحقا.
يجدر التذكير هنا أن أهم ما في مشروع القانون المنقح للقانون المتعلق بالمحكمة الدستورية انه يخفّض من الأغلبية المطلوبة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية من أغلبية الثلثين (145) إلى أغلبية الثلاثة اخماس (131) لكن لئن رده رئيس الجمهورية الى البرلمان فإنّه لم يتعرض لمضمونه ولم يوجه له مطاعن قانونية ولم يعترض على تخفيض الأغلبية المطلوبة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية ولم يطلب تعديله، بل تجاوز كل ذلك.
و يتلخّص موقفه في أن الأجل الدستوري لإرساء المحكمة الدستورية قد انقضى فالفصل 148 من الدستور يقتضى في فقرته الخامسة انه يتم في أجل اقصاه سنة من تاريخ الانتخابات التشريعية ارساء المحكمة الدستورية وقد جرت الانتخابات في اكتوبر 2014 و أعلنت نتائجها في نوفمبر 2014 و قد مرّت ستة اعوام ولم ترس المحكمة الدستورية بعد و في توضيح لموقفه صرّح بمناسبة زيارته يوم 6 أفريل 2021 لضريح الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أنه لا يتحمّل وزر عدم إرساء المحكمة الدستورية في الآجال التي نصّ عليها الدستور وأن كل التأويلات لتبرير تجاوز هذا الآجل غير مقبولة لأن النصّ الدستوري واضح ولأن الخرق يبقى خرقا مهما طال الزمن ولا يمكن أن يُبرّر بخرق مثله.
ولنفترض جدلا أن أجل إرساء المحكمة الدستورية قد انقضى فعلا وان الأجل هنا هو من الآجال المسقطة أي انه لا يمكن بعده إرساء المحكمة إلا إذا وقع حل مسالة الأجل بتحوير الدستور نفسه (لا يمكن تعديل الدستور في غياب محكمة دستورية يؤخذ رأيها في أي تعديل مقترح وهكذا ندخل في وضعية البيضة والدجاجة). إن هذا المنحى الشكلاني إذا ما اخترنا السير وفقه بشكل منسجم منطقي والى آخر استتباعاته سيقودنا لا محالة إلى أوضاع نتساءل إذا كان السيد الرئيس قد وضعها في حسبانه وقدرها قبل ان يقدّم رده إلى المجلس.
تساقط قطع الدومينو
لا شك أن هذا الضرب من التفكير الذي نسميه ميكانيكيا (نقصد بالفكر الميكانيكي كل فكر شبيه في عمله بعمل الآلة التي ابتكرتها الصناعة الإنسانية فهي خاضعة في اشتغالها إلى عوامل سابقة ولا متغيرة. ومن ابرز تجليات هذا الفكر الحالات العبثية التي يحدثها في مواجهة المشاكل الطارئة بسبب عدم قدرته على اي نوع من الاجتهاد خارج «برمجته الصلبة» ونتيجة لذلك لا يقدم أي حل للصعوبات المستجدة التي يواجهها )يقود إلى وضعيات كارثية ومنها :
1- عدم دستورية القانون عدد 50 لسنة 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية و الذي كان ختمه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ونشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 98 الصادر في 8 ديسمبر 2015 والذي يكون تجاوز اجل السنة لإرساء المحكمة فقد أعلن رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يوم 21 نوفمبر 2014 عن النتائج النهائية والرسمية للانتخابات التشريعية المذكورة اعلاه.
2 – لا شرعية لرئاسة قيس سعيد للجمهورية التونسية فالمحكمة الدستورية لم تكن قائمة حين توفى الرئيس السابق المرحوم الباجي قائد السبسي ولو كانت قائمة لاجتمعت فورا عملا بأحكام الفصل 84 من الدستور وأقرّت الشغور النهائي و اعلمت به رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل ادناه 45 يوما و اقصاه 90 يوما لكن لم تجتمع هذه المحكمة بسبب غيابها واضطر القائمون على شؤون الدولة احتراما منهم لمقاصد الدستور و روحه الى الاستئناس برأي هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين في مسألة اقرار الشغور النهائي.
ومن الواضح ان هذا الحل الذي اضطرت اليه البلاد في ظل غياب محكمة دستورية مخالف للدستور ويمثل خارقا له من وجهة نظر شكلية بحتة ويترتب عن هذا الخرق بطلان كلّ ما تمّ القيام به اثر وفاة الرئيس السبسي وبسببها و لاسيّما فيما يخص الانتخابات الرئاسية:
1 – بطلان تولي محمد الناصر رئيس مجلس نواب الشعب مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة.
2 – بطلان جميع الأعمال التي قام بها و التي نذكر منها على سبيل المثال الأمر الرئاسي عدد 122 لسنة 2019 المؤرخ في 31 جويلية 2019 المتضمن دعوة الناخبين للانتخابات الرئاسية 2019 و المنشور بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 62 الصادر في 2 اوت 2019 و ينصّ الفصل الأوّل من هذا الأمر على ما يلي : « يُجرى الاقتراع للدورة الأولى للانتخابات الرئاسيّة داخل الجمهوريّة يوم الأحد 15 سبتمبر 2019 وبالنسبة إلى التونسيين بالخارج أيّام الجمعة والسبت والأحد 13 و 14 و 15 سبتمبر2019 ».
3 – بطلان الأمر الحكومي عدد 754 لسنة 2019 المؤرخ في 22 اوت 2019 المتعلق بتحديد السقف الجملي للإنفاق على الحملة الانتخابية و سقف التمويل الخاص و بتحديد سقف التمويل العمومي وضبط شروطه و اجراءاته بالنسبة للانتخابات الرئاسية 2019.
4 – بطلان منشور البنك المركزي عدد 4 لسنة 2019 المؤرخ في 7 اوت 2019 المتعلق بالحسابات الخاصة بالحملة الانتخابية لفائدة المترشّحين في الانتخابات الرئاسية.
5 – بطلان جميع أعمال الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية 2019 و لاسيّما الاعلان عن النتائج النهائية المتضمّنة فوز المترشح قيس سعيد في هذه الانتخابات.
6 – بطلان جميع الأعمال التي قام بها قيس سعيد بصفته رئيس الجمهورية مثل أدائه اليمين امام مجلس نواب الشعب و رئاسته لاجتماعات مجلس الأمن القومي ومثل تكليفه كلاّ من الحبيب الجملي و إلياس الفخفاخ و هشام مشيشي بتكوين الحكومة وبطلان لقاءاته و مكالماته الهاتفية مع رؤساء الدول الاجنبية ومع رؤساء حكوماتها.
7 – انتفاء صفة رئيس الجمهورية التونسية عن قيس سعيد مما يجعل من إقامته غير قانونية في قصر الرئاسة بقرطاج غير دستورية.
الفوضى غير الخلاقة
لا تتوقف عبثية هذا التفكير عند حدود منزلة الرئيس الدستورية، بل تتجاوز ذلك إذا ما أردنا ان نسير فيه الى منتهاه.
فإذا اعتبرنا أن اجل ارساء المحكمة الدستورية قد انقضى فعلا فعلينا أن نسلك نفس المنهج في التفكير فالمجلس الأعلى للقضاء الذي أرسي بعد انقضاء أجل الستة أشهر المنصوص عليه بالفصل 148 من الدستور لا دستوري هو ايضا مما يؤدي الى بطلان كل الأعمال التي قام بها الرئيس في صلة بهذا المجلس اللادستوري بمنطق قيس سعيد المتوقف بشكل كارثي عند الآجال.
فقد استقبل يوم 1 مارس 2021 بقصر قرطاج يوسف بزاخر رئيس هذا المجلس واستقبله يوم 25 من نفس الشهر والسنة مع مليكة المزاري رئيسة مجلس القضاء العدلي و اشرف في ذات اليوم على موكب أداء اليمين للعضو الجديد بالمجلس الأعلى للقضاء السيدة سنية بن عمار رئيس الدائرة الابتدائية الأقدم بالمحكمة الإدارية و حضر الموكب كلّ من رئيس المجلس الأعلى للقضاء و الرئيس الأول للمحكمة الإدارية و استقبل يوم 15 أفريل 2021 رئيس المجلس الأعلى للقضاء الذي قدّم له التقرير السنوي الثاني 2018-2019 للمجلس الأعلى للقضاء.
وقبلها كان أمضى على الأوامر المتعلّق بالحركة السنوية للقضاة في سلك القضاء لسنة 2019-2020 ثم لسنة 2020 -1202.
بل إن الأخذ بهذا النوع من التفكير سيقودنا حتما إلى اعتبار كل القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء المرسى خارج الآجال الدستورية باطلة بطلان كل الأوامر ذات الصلة سواء تلك التي أمضاها قيس سعيد او سلفه الباجي قائد السبسي و بطلان جميع الأحكام الصادرة عن القضاة في جميع الرتب العدلية او الإدارية او المالية والذين شملتهم الحركات القضائية المتعاقبة منذ ارساء المجلس الأعلى للقضاء.
بل إننا اذا سرنا في هذا النوع من التفكير فإننا ننتهي إلى اعتبار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين هي أيضا لا دستورية ومعها كل القرارات الصادرة عنها سواء بدستورية او بعدم دستورية مشاريع القوانين المحالة عليها بعد 22 نوفمبر 2015 اي آخر اجل لإرساء المحكمة الدستورية ولا نعتقد أن رئيسنا سيتوقف كثيرا عند الفصل 148 من الدستور الذي ينص على انه » تنتهي مهام الهيئة بإرساء المحكمة الدستورية » لان إرساء المحكمة مضبوط عنده بأجل اذا أخذنا به حرفيا صارت الهيئة تشتغل بعده خارج الآجال إلاّ إذا لم نتقيد بأجل السنة المحدد في نفس الفصل 148 .
هذه بعض النتائج التي يؤدي بنا إليها فكر رئيسنا الميكانيكي ولا شك ان هذه الحالات القليلة التي توقفنا عندها هي بعض من حالات لا حصر لها فنحن – إذا أخذنا بفكرة الأجل الدستوري لإرساء المحكمة الدستورية المنتهي في التاريخ الذي حددناه انطلاقا من قراءة سعيد للفصل 148 – في وضعية هي أشبه بتساقط كل قطع الدومينو بسقوط القطعة الأولى مما يؤدي إلى انهيار البناء المصنوع من القطع المستندة الى بعضها البعض بأكمله وبشكل تراجيدي.
الهروب الى الأمام
وبقطع النظر عن هذا الخراب المفترض فما الذي ينتظرنا من رئيسنا في المستقبل؟
نحن نتوقع كل شيء غير أننا لا نستبعد في هذه المرحلة أن يتصرف بالشكل التالي في نوع من الهروب إلى الأمام:
1- يمتنع عن الطعن في مشروع القانون إذا ما ارجع إليه من المجلس غير معدل اذ لم يقترح الرئيس على المجلس أي تعديل وذلك بحجة ان الهيئة الدستورية تشتغل خارج الآجال الدستورية ولا نستبعد انه التجأ إلى آلية الرد دون الطعن لهذا السبب بالذات.
2 – يرفض ختم مشروع القانون الراجع إليه من المجلس اثر قراءة ثانية بعد انتهاء أجال الطعن في الصيغة العائدة معدلة او غير معدلة وفق الفصل 81 من الدستور.
3 – يمتنع عن تعيين الأربعة أعضاء المطالب بتعيينهم.
4 – يرفض قبول الأعضاء المعينين من البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء إذا تم ذلك لأداء اليمين أمامه كما رفض اداء يمين الوزراء الذين منحهم مجلس النواب الثقة …وهو بذلك يغلق الباب أمام الإمكانية ولو الضعيفة بان تشتغل المحكمة بثلثي أعضائها (08) كما اقترح البعض إذ أنها تتخذ قراراتها بأغلبية أعضائها اي 7 من 12.
أخيرا من المؤسف أننا لسنا هنا أمام لعبة نتلهى فيها معجبين بالتساقط «الجميل » لقطع الدومينو بل نحن أمام مصير وطن وشعب إذا سقط انهار الجدار على الجميع فلا نجاة لأحد من الخراب القادم وقد استملح قادتنا لعبة لي الذراع أو شد الحبل ..فلا خير في من تعطل فكره عند نقطة الأجل فامتنع بعد ذلك عن الحركة ولا خير في من أضاعوا ست سنوات في حساباتهم البغيضة فعجزوا عن إرساء المحكمة لأن الوطنية ومصلحة البلاد عندهم خطاب أجوف يملئون به قاعات المجالس الرديئة وبلاتوات التلفزات القبيحة حتى جاءهم من فتح أعينهم المغمضة على فداحة ما ارتكبوه فأسرعوا اتقاء لشر ما فعلوا إلى ما عطلوه ظلما لتحريكه على وجه السرعة …ولكن ربما بعد فوات الأوان .