"نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا"
الامام الشافعي
منذ مدة طويلة و لاسيّما بعد ان اعلن قيس سعيد رئيس الجمهورية عن اتخاذ تدابير استثنائية على معنى الفصل 80 من الدستور تتعالى أصوات تعلن رفضها للدستور و تطالب باستبداله بدستور آخر يؤسّس لنظام رئاسي.. إلاّ أنّها لا تبين ما تريده من طلبها : هل تريد نظاما على غرار النظام الرئاسي في الولايات المتحدة الأميركية الذي يحول دون الاستفراد بالسلطة و دون الاستبداد ام تريد العودة الى دستور 1959 الذي بسبب غياب التعدّدية السياسية صلبه كرّس الرئاسة مدى الحياة بمقتضى التعديل الدستوري عام 1975 كما شرع لنظام الحزب الواحد المهيمن على مؤسسات الدولة و الذي كان ايضا سببا في الاستبداد الذي جثم على صدر البلاد لعقود والذي لم يمنع كما يريد ان يوهمنا البعض من عدم الاستقرار السياسي لاسيّما بعد مرض الرئيس الحبيب بورقيبة في آخر الستينات وبعد ان برز جليا صراع اجنحة الحزب الحاكم هذا الصراع كان ضحيته وزراء مباشرون مثل احمد بن صالح و محمد مزالي و ادريس قيقة و الهادي البكوش و غيرهم.
و نتج عن عدم الاستقرار السياسي عدم الاستقرار الحكومي ولنأخذ هنا بعض الأمثلة التي تكشف زيف بعض الاوهام التي ترّوج اليوم حول علاقة النظام الرئاسي في بلادنا بالاستقرار السياسي دون التوسع في ذك بشكل لا يحتمله هذا المقال المقتضب.
زيف الأوهام
عيّن رشيد صفر وزيرا أول بالأمر عدد 650 لسنة 86 المؤرخ في 08 / 07 / 1986 و دامت وزارته قرابة سنة وثلاثة اشهر فقد خلفه في هذا المنصب زين العابدين بن علي بالأمر عدد 1183 لسنة 87 المؤرخ في 3 اكتوبر 1987 و احتفظ بمنصب وزير الداخلية ورغم قصر مدّتها عرفت الحكومة التي شغل فيها رشيد صفر منصب الوزير الأوّل قرابة 30 تحوير وزاريا.
ولنفصل أكثر فقد عين عبد العزيز بن ضياء على راس وزارة الشؤون الثقافية بالأمر عدد 1264 المؤرخ في 30 سبتمبر 1987 و المنشور بالرائد الرسمي عدد 69 المؤرخ في 2 اكتوبر 1987 لكن بعد ثلاثة ايام من تاريخ هذا الامر سمّي زكريا بن مصطفى وزيرا للشؤون الثقافية بالأمر عدد 1185 المؤرخ في 3 اكتوبر 1987 و المنشور بالرائد الرسمي عدد 70 المؤرخ في 6 اكتوبر 1987 .
ان من اهم الأسباب لعدم الاستقرار السياسي و الحكومي في دستور جوان 1959 هو استفراد رئيس الجمهورية بكل السلط عبر منظومة الحزب الواحد وعبر صلاحيته المطلقة في تكوين الحكومة و في إعفائها أو إعفاء احد أعضائها فهو حسب صريح الفصلين 50 و 51 من دستور جوان 1959 يعيّن الوزير الأول و بقية أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير و ينهي مهام الحكومة او عضو منها تلقائيا او باقتراح من الوزير الأول.
الثورة تفتح عهدا جديدا
بعد ثورة الحرية والكرامة وبإشراف الحكومة التي كان وزيرها الأول الباجي قائد السبسي جرت في تونس أوّل انتخابات حرة غير معلومة النتيجة مسبقا لانتخاب اعضاء المجلس الوطني التأسيسي وقد كان اعضاؤه ينتمون الى مختلف التيارات السياسية يمينا و وسطا ويسارا و لا يملك أيّ منهم الاغلبية وسنّ هذا المجلس دستورا توافقيا اسس لنظام سياسي يقوم اساسا على :
1 – التعددية السياسية وهي الركن المحوري للفصل بين السلط الثلاث التشريعية و التنفيذية و القضائية.
2 – مدنية الدولة فمصدر التشريع هو الشعب الذي يمارس السلطة التشريعية عبر ممثليه بالبرلمان او عن طريق الاستفتاء.
3 – الانتخابات الحرة الشفافة والنزيهة.
4 – التوازن بين السلطتين التشريعية و التنفيذية اولا من خلال مسؤولية الحكومة امام البرلمان و امكانية التصويت ضدّها بموافقة الاغلبية المطلقة من اعضاء المجلس على لائحة لوم بشرط ان تكون معلّلة وتقديم مرشح بديل لرئيس الحكومة يصادق على ترشيحه في نفس التصويت وثانيا من خلال حق رئيس الجمهورية سواء في تعيين الشخصية الاقدر من اجل تكوين الحكومة وفي الاعتراض على مشاريع القوانين المصادق عليها من المجلس التشريعي بالصيغ الكثيرة التي حددها الدستور و في حل البرلمان دون ان ننسى حق رئيس الجمهورية في الطعن في دستورية مشاريع القوانين وذلك عملا بالقانون المتعلق بهيئة مراقبة دستورية القوانين.
لقد قطع النظام السياسي من خلال دستور جانفي 2014 مع نظام الاستبداد و الاستفراد بالسلطة و هو عامل استقرار سياسي و حكومي اذا صحبه نظام اقتراع بالأغلبية وهو شبيه بالنظم السياسية التي اتبعتها دول كثيرة بعد ان تخلّصت من الدكتاتورية و هي الآن اقتصاديا في مقدّمة الدول ونذكر منها إيطاليا التي اختارته بعد ان تخلّصت من الفاشية ومن دكتاتورية موسيليني وحافظت عليه و ادخلت تعديلات على قانونها الانتخابي سعيا للاستقرار الحكومي و نذكر ايضا اسبانيا التي اختارته بعد ان تخلّصت من دكتاتورية فرانكو و اليابان بعد ان تخلّص من ديكتاتورية الامبراطور و ألمانيا بعد ان تخلّصت من النازية و من هتلر و البرتغال بعد ان تخلّصت من دكتاتورية سالازار.
لقد ادخلت هذه الانظمة تحسينات على هذا النظام بما يعرف بالنظام البرلماني المعقلن (1 ) الذّي يوفّر الوسائل الدستورية والقانونية لغاية التوقّي من عدم استقرار الحكومي و يضمن لمؤسسات الدولة سيرها العادي بتدعيم موقف الحكومة تجاه البرلمان فلا يسحب الثقة منها كيفما يشاء بل طبق شروط خاصة تتمثّل في تحديد الآجال و وضبط الاجراءات و اشتراط اغلبية معزّزة و تقديم مرشّح بديل لرئاسة الحكومة ففي ألمانيا يشترط لسحب الثقة من الحكومة اوّلا تقديم لائحة لوم بنّاءة و ثانيا القدرة على تكوين اغلبية جديدة منسجمة قادرة على العمل الحكومي.
ونذكر من بين هذه الدول فرنسا التي لم تتخلّ عن هذا النظام في دستور جمهوريتها الخامسة و ادخلت عليه تعديلات تعزّز صلاحيات رئيس الجمهورية مثل اتخاذ التدابير الاستثنائية لصد الخطر الداهم و مثل صلاحية تعيين الوزير الأوّل و تعين بقية اعضائها باقتراح من الوزير الأوّل لكن حافظت على مسئولية الحكومة امام البرلمان.
نعيب دستورنا والعيب فينا
إن القول بان دستور 2014 هو المسئول الوحيد عن كل أزماتنا أمر غير صحيح و قول مضلل ومخادع فلا شك أن المسؤولية تقع على كثير من الجهات منها ضعف المنظومة الحزبية في تونس وفسادها وهيمنة عقلية الغنيمة عليها كما ميراث الزعامة الفردية الذي يحولها في كثير من الأحيان الى ملكية خاصة و فساد الطبقة السياسية في ظل قضاء تابع يمكنها من الإفلات من العقاب و مجلس نواب غارق في صراعات الكتل البرلمانية في ظل نظام داخلي لا يحفظ النظام صلبه وتوسع في منح الحصانة للنواب مما حول المجلس إلى مكان يختبئ فيه المجرمون والخارجون على القانون و غياب المحكمة الدستورية بوأدها والتي كان من المفروض أن تفصل في كل تنازع على السلطة في نظام تتقاسم فيه ثلاث جهات الحكم وهي السلطة التنفيذية برأسيها والسلطة التشريعية وهو نظام يمكن أن ينشا عنه ( وهو أمر طبيعي ولا مناص منه وموجود في كل الأنظمة المشابهة ) التباس وغموض.
وسلطة قضائية تحوم حولها شبهات فساد تقدم القضاة المشبوهين وتمنحهم سلطة الإحالة والحكم بحسب ما يخدم السلطة الحاكمة وزراء ونوابا ورجال أعمال متورطين مع السياسيين في عمليات مشبوهة كثيرا ما أشارت إليها تقارير هيئة مكافحة الفساد وبلاغات واشعارت منظمات المجتمع المدني المتخصصة في موضوع النزاهة والشفافية في النشاط العمومي خاصة بل أشار إليها بعض النواب كما تحمي القضاة الفاسدين و جو اجتماعي محتقن سادته القطاعية والمطالب المجحفة التي ابتزت الدولة الضعيفة مع الإضرابات العشوائية والاعتصامات التي واجهتها الدولة بيد مرتعشة رغم انها اوقفت عجلة الانتاج في عديد القطاعات لاسيما الحيوية منها مثل الفسفاط و البترول وكلفت الدولة خسارة آلاف من المليارات كانت في حاجة إليها في ظل متاعب اقتصادية هيكلية خطيرة ومتراكمة دفعت الدولة الى مزيد الاقتراض الخارجي والى توريد مواد كانت تونس تصدرها مثل الفسفاط و الأمونيتر المستعمل في الفلاحة.
انضاف إلى كل ذلك في الفترة الاخيرة شلل عمل الحكومة جراء التعطيل الذي مارسه رئيس الجمهورية على عملها لاسيما منذ بداية السنة الحالية عندما رفض قبول الوزراء الذين احرزوا ثقة البرلمان و رفض ان يؤدوا اليمين الدستورية امامه و رفض تسميتهم و اضطر رئيس الحكومة الى اسناد الوزارات الشاغرة الى وزراء مباشرين فأصبح جلّ الوزراء يسيّرون وزارة اصالة و وزارة بالنيابة فهو ايضا مسئول عن تعطل سير دواليب الدولة و قد عبّر عن هذا الرأي الاستاذ عياض بن عاشور في مداخلة له في إذاعة موزاييك الذي اشار ايضا الى رفض رئيس الجمهورية ختم القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية و استخلص ان ما كان قام به رئيس الجمهورية مخالف للدستور و اضاف "ويبدو انه كان يخطط لتوقيف الدستور و الانقلاب عليه " في اشارة الى قرارات رئيس الجمهورية يوم 25 جويلية 2021 والتي اعتبرها الاستاذ عياض بن عاشور مخالفة للدستور بسبب عدم توفر شروط تطبيق الفصل 80 منه.
لقد اعطت هذه القرارات مزيدا من الذرائع للانقضاض على النظام السياسي الذي جاء به دستور 2014 وهو ككل الدساتير في حاجة الى التعديل ولكن بعد استكمال المؤسسات المنصوص عليها به و الغاية من التعديل هي اساسا مزيد توضيح العلاقة بين راسي السلطة التنفيذية من جهة وبين السلطة التنفيذية والتشريعية من جهة اخرى وقد نكون في حاجة أيضا إلى مراجعة بعض الفصول التي أثارت مشاكل مثل الفصل 89 على وجه المثال لا الحصر في صلة بمنح الثقة للوزراء من المجلس من اجل إعطاء مزيد من الحرية لرئيس الحكومة للتحرك خارج الضغط المسلط عليه باستمرار من البرلمان.
قد نكون في حاجة أيضا وبشكل مستعجل إلى تعديل القانون الانتخابي من اجل تجاوز التشتت الذي عرفه المجلس النيابي منذ انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 2011 ويمكن في هذا الصدد مراجعة النظام الانتخابي لضمان أغلبية متناسقة والأخذ بالاقتراح الذي قدمه المختصون مثل المحافظة على نظام النسبية، مع تعديله عبر وضع نظام لتنفيل الأغلبية بنسبة يتم الاتفاق حولها (15 أو 20 أو 25 بالمائة)، إلى جانب اعتماد عتبة بين 5 أو 7 بالمائة.
لا احد قال إن دستور 2014 دستور مثالي، ولكن من العبث أن نضع على ظهره جميع عيوبنا كما يضع البعض كل عيوبهم على الدهر كما قال الإمام الشافعي وقد استشهد به قبلنا رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر في سياق الدفاع هو أيضا عن الدستور الذي كان واحدا من آبائه المؤسسين.
يقول الشافعي :
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا وما لزماننا عيب سوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا