في 25 جويلية الماضي ، قام رئيس الجمهورية المنتخب قيس سعيّد بتعطيل دواليب الدّولة بذريعة الفصل 80 من دستور 26 ديسمبر 2014 ، الذي انتُخب المذكور على أساسه للخطة السامية التي يشغلها منذ 2019 . في الثامن من أوت تكون إذن قد مرّت خمسة عشر يوما و البلاد تترنّح كالسفينة الجانحة بمخاض داخلي مشوّش يلفّه توجّس الناس و النخب كلٌّ من الكلّ في خضمّ سباقات دبلوماسية دوليّة محمومة للتموقع على السّاحة التونسية و للتأثير في مجريات الأمور كلّ لمصالحه .
تبدو تونس لأول مرّة منذ ثورة 14 جانفي 2011 مفتوحة على كلّ الإحتمالات بما فيها الإحتراب الدّاخلي بعد أن شدّد الرّئيس قيس سعيّد على إمكانية أن يواجه معارضيه ب"وابل من الرّصاص" بعد أن نسب إليهم نوايا العمل المسلّح . خطر صَوْمَلَة تونس لم يعدْ احتمالا معدوما أو مجرّد توقّع تشاؤمي . و تشكّل المواقف الليبية في هذا الباب مثالٌ معبّرٌ عمّا ينتظر البلاد من أخطار ماحقة ، حيث ساندت طرابلس المنظومة الشرعية في تونس فيما اصطفّ خليفة حفتر وراء تحرّك قيس سعيّد . يمكن تصوّر ما تؤول إليه الأمور إذا انفرط عقد الجيش التونسي و اندلع صراع حتى الموت بتدفّق السلاح على الحدود . ماذا يكون مصير البلاد إذا لم يتمّ تدارك الأمر قبل الوقوع في دوّامة يمكن تَوَقُّعُ لحظةَ حدوثها لكن لن يستطيع أحد أن يدّعيَ التنبّؤَ بلحظة نهايتها .
على أنه مازالت أمام الفاعلين أيّام تبقى فيها أبواب مفتوحة للعودة إلى النّزال السياسي - مهما كانت مساوئه – بدلا عن التقاتل بلا حدود و لا ضوابط و لا رحمة ، كما في الحروب الأهلية التي لم تعرفها تونس الحديثة أبدا و التي يمكن أن تُبقي البلاد طريحة الأرض لعقود و عقود قادمة . ذلك أن الرئيس الحالي تمسّك و لو شكليا بإبقاء تحرّكه داخل إطار الدستور التونسي الجاري به العمل حاليا و الذي لم يقمْ بالقطع معه و لو بمجرّد التعليق أو التجميد مثل ما فعل مع البرلمان .
من هنا يبقى الدّستور كعامل مشترك حاضنة للجميع يمكنهم إعادة التوافق حوله و لو على أساس جديد ينتج عن تفاوض قادم و لو طال . بذلك تكون الدّولة قائمة ككيان جامع بمؤسساتها كافّة و ينحسر خطر انفجارها بتعمّق التجاذبات حولها حتّى التمزّق . يمكن أن يكون خيار التمسّك بالدستور من حسابات الرئيس سعيّد لا فقط لأنه يتيح له دفع صفة "الإنقلابي" عن نفسه بل أيضا لأنّه يمكّنه من تحسين شروط التفاوض مع معارضيه بأفق إعادة وحدة الدّولة التي أشار إليها بادعاء أنه استشار رئيس البرلمان و رئيس الحكومة عند تحرّكه تحت مسمّى الفصل 80 المبنيّ أصلا على وحدة الدّولة و تكامل مكوّناتها في مواجهة خطر لا يمكن أن يكون متأتّيا إلا من خارجها ، بل إنّ المشرّع افترض الإنقلاب من الدّاخل ، أي طغيان إحدى السّلط على الأخريات فمنَع أن تتصرّف إحداها في الأخرى بالإلغاء كي لا تنخرم التوازنات بينها فتؤول إلى الإستبداد أو الإنهيار . "المطلوب من كلّ سلطة أن تحدّها سلطة" ، كما قال المغفور له مصطفى بن جعفر . و من هنا فإن الفصل 80 أياه ، لا فقط لا يوقف عمل البرلمان كسلطة أساسية، بل يجعله في انعقاد دائم طالما دام استعمال الفصل 80 نفسه .
هذا هو ما نرجو أنه كان قاعدة تصرّفات و نوايا رئيس الجمهورية الحالي عند إصراره على البقاء ضمن الدستور . و يترتّب على ذلك القيام بما يجب لاحترام أجل الثلاثين يوما الذي ضبطه الفصل المذكور لإنهاء حالة الإستثناء و العودة بالبلاد و العباد إلى التفريق بين السّلطات و التقيّد بالإلتزامات و احترام القانون . ذلك أنّ توقّف ردود الفعل على "تعليق" الدّيمقراطية التونسية الوليدة عند وقفة احتجاجية يتيمة أمام البرلمان من طرف رئيسه أظهر تآكل حركة النهضة ، الحزب الرّئيسي في البلاد ، و تعمّق أزمته الدّاخلية . لقد تراكمت أخطاء الأغلبية النيابية الحاكمة و ازداد الغضب الشعبي جرّاء الواقع الإقتصادي و الإجتماعي الرديء و الذي فاقمته الجائحة الصحّية إلى درجة السّخط .
فإذا أضفنا إلى ذلك مكائد صهاينة العرب و سعيهم المكشوف لخنق نظام يحتكم إلى قواعد التداول السلمي على السلطة ، رأينا أنه من الصّعب أن لا تزداد التوترات، بل و أن لا يتجاسر البعض على المنظومة برمّتها من داخلها و من خارجها لاستهداف النسق السياسي الذي أنتجته ثورة الشعب التونسي لسنة 2011 . إنّ استغلال واقع كهذا لإعادة البلاد إلى الحكم الفردي لن يمكّن تونس من الخروج من أزماتها المتعدّدة ، بل كلّ ما يمكن أن يحصل هو حكم استبدادي أو احتراب داخلي أو كلتا المصيبتين .
ذلك ما فهِمَتْه القوى الغربية المؤثّرة و أولها الولايات المتحدة التي عبّرت منذ 26 جويلية و مباشرة للرّئيس سعيّد عن ضرورة العودة إلى النظام الدّيمقراطي مع صَوْن المؤسّسات التي يتكوّن منها . و لقد كان من الصّعب تصوّر موقف غير هذا بالنظر إلى اجتماع كلمة العديد من الوجوه التونسية الإعتبارية على وصف تحرّك قيس سعيّد ضدّ البرلمان و الحكومة بأنه "انقلاب تامّ الأركان" كما صرّح بذلك الأستاذ عياض بن عاشور و غيره ممّن خيّروا أن يصدحوا بكلمة الحقّ أمام شعبهم و لا يسايروا حلول المقامرة بالسلم الأهلي لبعض السياسيين الفاشلين و المؤامرات التي تخدم الأجندات الأجنبية و كلا المسعيان عادة يتكاملان لإعادة تونس إلى بيت الطّاعة داخليا و دوليّا .
إنّ انقضاء يوم الثالث و العشرين من أوت الجاري ، أي اليوم الثلاثين منذ تحرّك قيس سعيّد ، بدون إعادة الدّيمقراطية التونسية إلى وضعها الطّبيعي سيكون إيذانا بالسّطو على إرادة التونسيين و الإستعداد لردّهم إلى وضع الرّعايا بعد أن عانوا الأمرّين لانعتاق السنوات العشر الذي لا يكون بعده استعباد إلاّ بالقهر و القتل و التعذيب و الفساد و شراء الذّمم و بثّ الفُرقة بين بني البلد الواحد و دفع آلاف الشباب اليائس إلى أنكى أنواع الإرهاب وسوى ذلك من ضروب الحوكمة الفاسدة مدفوعة الأجر من الخارج .
هذا ما ينتظر شعب تونس ، نخبًا و جماهيرا ، إذا لم يكن الرئيس سعيّد قد فاوض قبل انقضاء الأجل ، على استعادة نشاط مؤسسات الدّولة و سحب العساكر من الفضاء العام و مؤسّسات الدّولة لإعادتها إلى قوى الأمن الدّاخلي كي تؤدّي وظيفتها الطّبيعية . كما على الرئيس أن يسَحَب نهائيّا فكرة وضع يده على النيابة العمومية و غير ذلك من الأفكار غير الواقعية عمليّا و أخلاقيّا . إذا فضّل قيس سعيّد هذا السيناريو على حفظ شعبه من المغامرات غير المحسوبة فسوف يكون ساعيا عبَثا لنفخ الرّوح في رميم نظام زين العابدين بن علي و لن يَتْرُك بذلك من خيارٍ لشعبه إلاّ أن يواجهه بكلّ السّبُل السلمية المتاحة دفاعا عن النفس .
نحن بنو المهاجر لن نكون غائبين في تلك اللحظة و لن ندعَ أحدا يتسلّط علينا و على شعبنا من جديد . سوف نرجع إلى وطننا و أهلنا و نُخبر العالم بما يقترفه الحاكم كائنا من كان بحقّهم و حقّنا . و قد استعاد الكثيرون منّا مواقعهم النضالية زمن الجنرال بن علي تحسّبا لسيناريو سطوٍ على الدّولة و الشعب كما كان بداية من 1990 و قد يُشبهُ الأمسُ اليوم …