واقع اليوم في تونس يدفع دفعا إلى مقارنات لا مفرّ منها مع حِقبٍ أخرى من تاريخنا . أواخر الثمانينات ، وعَدَنا الجنرال بن علي بالجنّة الدّيمقراطية حال ما يستتبّ له الأمر فكان أن منحَتْه البلاد قاطبة صكّا على بياض . قيس سعيّد يطلب منّا كلّ يوم مزيدا من الوقت ليدخلنا عالما خاليا من الفساد و أهلِه و متوثّبا لإحداث نقلة نوعيّة تأخذنا إلى فردوس لا يعلم سماتِه حتى هو نفسه .
تلوّى جنرال المخابرات و اكتوى بنار العزلة و مواقف الإزدراء التي كانت زعامات دوليّة كثيرة تعامله بها لِصَلَفِه و استغرابه من أن تتمّ معاملته كذلك بعد كلّ آيات القرب من الغرب التي كان قدّمها بسخاء ، يرجو منها رضا نظرائه و احتفاءَهم به بل و اعترافَهم بجميله عليهم في الهجرة و الحدود و الإرهاب ...
وها هو السفير الأمريكي الأسبق في تونس غوردون غرايGordon Gray يقيم مقارنات لا يمكن إلاّ أن نقف عندها لعلّنا لا نُلدَغ من الجحر مرّات و مرّات . حيث ذكر السفير في مقال على موقع معهد الدّراسات الدبلماسية لجامعة جورج تاون بتاريخ 5 أوت 2021 ، كيف أنّه بعد انتخابات 2009 التي أعلن بن علي فوزه فيها ب 89 % من الأصوات ، قام هو بتوجيه الخارجية الأمريكية بعدم نشر التهنئة الرّوتينية التي تُقدَّم لرؤساء الدّول عند انتخابهم مهما كانت الطريقة التي انتُخِبوا بها . فاستشاط بن علي غضبا و هو الذي يحكم البلاد منذ 22 سنة و طلب من السفير التونسي أن يلحّ على الخارجية الأمريكية كي تغيّر موقفها و لكنّ إدارة الرئيس أوباما أصرّتْ و امتنعتْ فلم يجدْ الرّئيس إلاّ "السفير المسكين" كما كتب السيد غوردون ، ليقوم بعزله سريعا .
و قام السفيرغوردون بمقارنة هذه الحادثة بتلك التي أُعلِن فيها إعفاء السفير التونسي في واشنطن يوم 23 أوت 2021 إذ نُسِب سببُ القرار إلى تلك المحادثة بساعة كاملة في 31 جويلية 2021 بين الرئيس و جيك سوليفان Jake Sullivan ، مستشار الأمن القومي و التي ركّزفيها المسؤول الأمريكي على ضرورة العودة إلى طريق الدّيمقراطية التي خرجتْ منها تونس بشروع قيس سعيّد في انقلاب 25 جويلية . و يواصل السفير الأسبق بنبرة فيها تهكّم مع مرارة : " إطلاق النار على المرْسول قد يكون من طبائع البشرو لكنّ الحركة المتسرّعة لسعيّد ]بعزل السفير[ تُظهر في آن واحد انعدام خبرتِه و قلّةَ رَباطةِ جأشِه إذا صحّ أنه قرّع السّفير من اجل إنذارات سوليفان..." و يضيف غوردون : "باقتفائه آثار بن علي ، يذكّرنا سعيّد بأن التاريخ (...) يمكن أن يكرّر نفسه .
" و يختم السفير مقاله بأن تمنّى متشائما "في ما يخصّ المستقبل" أنّ "سعيّد لن يقلّد بن علي كذلك في اعتبارات أخرى ." و من لم يفهمْ فذلك شأنه !
نفس السفيرغوردون غرّد في 5 نوفمبر الجاري بخبر إستثناء بلادنا من "قمّة الديمقراطية" التي ستًعْقد يومي 9 و 10 ديسمبر 2021 في أمريكا وذلك بعد ان أُلْغِيت القمّة الفرنكوفونية التي كانت مقرّرة ليومي 21 و 22 نوفمبر الجاري . فتكون تونس قد عادتْ في أقلّ من سنتين من حكم قيس سعيّد إلى العزلة الأخلاقية و السياسية و الدّبلماسية الخانقة التي كان عليها نظام بن علي في العشريتين اللّتين تلتا وصوله إلى الحكم .
السفير غوردون تساءل في مقال آخر بتاريخ 8 أكتوبر 2021 في نفس المصدر "إن كان المجتمع المدني التونسي يستطيع الحفاظ على ديمقراطيته" .
.نعم ، هكذا عنْوَن الأمريكي الخبير ببلادنا مقالَه ثمّ أردف قولا مؤثّرا هو تدخّل في الشأن التونسي نشكره و الشعبَ الأمريكي عليه . يقول السفير غوردن "إنّ طريق تونس من الدّكتاتورية إلى الدّيمقراطية - المسدود بفعل استيلاء الّرّئيس على السلطة في هذه الصّائفة - هو مهمّ لكلّ أمريكيٍّ متعلّقٍ بالقيم الدّيمقراطية ."(إنتهى السّرد ).
و لكن كيف يحافظ المجتمع المدني على ديمقراطيته إذا كان قادرا على تركها نهبا لدولة الإنقلاب و جماعتها ؟ بل إن بعض مكوّناته المؤدلجة تدفع الرّئيس المندفع أصلا بفعل دخوله الشرعي إلى أعلى منصب في الدّولة ، إلى مزيد النَّهَم إلى السلطة حتّى جلس على كرسيِّه جلسة الملوك المتوَّجَة من شاه إيران إلى بوكاصا إفريقيا الوسطى . ثمّ أخذ يأمر على الهواء بأن يتَابَع بعضُ خصومِه و بأن يؤْتَى إليه عند قدميْه ببعض مؤسّسات الدّولة العصيَّةِ صاغرة مطيعة . إنّه لمن المُحْزن أنّ رابطة حقوق الإنسان و أخوات لها مرتبطة بأوساط سياسية ترى لها مصلحة في أخذ نصيب من دولة قيس سعيّد ، كما كان الحال مع دولة بن علي بعد انقلابه على بورقيبة ، و يجب الإقرار في ذلك بكلّ مرارة أن التاريخ يعيد نفسه و البعض لا يتّعض إطلاقا …
و يبقى لنا الآن أن نأخذ المثال مما يأتينا من السودان الشقيق حيث الخطّ الأوضح و الأسلم هو الوقوف على مبدإ الحقّ : من انقلب عسكريّا - وهذا ما فعله قيس سعيّد دون أن يعلن - عليه العودة عن انقلابه . و المسألة تبدأ بتخيُّرِ الألفاظ و المفاهيم : الإنقلاب ليس تصحيحا ولا شيء غير ذلك ، الإنقلاب هو ما هو أي إ.ن.ق.ل.ا.ب و كلّ سعي تقوم به حركة النهضة أو غيرها ممن يخافون مواجهة الإنقلابي بغرض اتّقاء شرّه ، سوف يجرّون البلاد إلى مواجهة يفرضها عليهم بعد إتمام سيطرته على مفاصل الدّولة جميعها ليسومهم سوء العذاب و لو ألّهوه تأليها و قد أعدّ لهم عدّة من ميطولوجيا الجهاز السّري الإغتيالات و التسفير و لم يبقَ إلاّ إتمام السيطرة على الجهاز القضائي حتى تنطلق آلة القمع تطحن الشّعب بأشرس ما كان تحت بن علي الذي لم يكن بوليسه يتظار في الشارع .
إن كلّ يوم يمرّعلى الحاكم بامره يمكِّن له و يمدّ عروقه داخل جهاز الدّولة بشكل يُخضِعُه لمشيئتِه وحدَه حتى ينهشَ أقرب المقرّبين إليه بعد أن يكون قد أتى على خصومه من أمْلَسِهم إلى أشدّهم . ويجب التشديد هنا على أنّ انزلاقا كهذا لن يكون ضرورة بإرادة رئيس الدّولة الحالي بل سيجد نفسه مجروفا بديناميكية قد خرجتْ من يده و لم تتركْ له من خيار سوى النكوص على عقبَيْه نحو المعارضة يطلب صفْحَها ، كما االبرهان في السودان أو الإصرارعلى نهج متشدّد يؤدّي به إلى إراقة الدّماء و الفرار من البلاد أو إلى سقوط دامٍ كحال القذافي و في جميع هذه الإحتمالات نكون قد جنيْنا على بلادنا و على أنفسنا و أضعنا هباءً تضامنَ المتضامنين معنا و شدَّهُم أزْرَنا بعزْلِهم للمعتدي علينا و ربّما -لا قدّر الله- نكون قد تردّينا في حرب أهليّة تلحقنا بضحايا غلمان زايد و آل صعود .
مثل السودان ، يجب أن نشهد الّحقَّ على بلادنا و ننادي بكلّ حناجرنا بأن تحرّكَ 25 جويلية 2021 إنما هو انقلاب كامل بمعنى تبديل لهيئة الدّولة كما ورد في المجلّة الجزائية و ذلك بإلغاء الدّستوربقراءةٍ فجّة كاذبة لفصْلِه الثمانين . وهو تنكّرٌ مفضوح للدّولة الوطنية التي أقامها المجلس الوطني التّأسيسي بإرادة التوانسة كافّة إلاّ بعض بقايا النظام البائد . لذلك فإنّ المواجهة مع شخص قيس سعيّد لا تحتمل التّأجيل فإمّا الآن بامتلاك الشّارع و المطالبة بالعودة إلى المؤسّسات الدّيمقراطية بكلّ الوسائل السّلميّة و إمّا تحمّل تبعة تحوّل أستاذ القانون إلى سياسي منفلت أصمّ . و لا شيء يمكن أن يردعه غيرالتّظاهر السلمي العارم و الإحتجاج المدني بما في ذلك العصيان الوطني من أجل تدارك سرطان 25 جويلية. بعد ذلك سوف ننتظر 23 سنة أخرى أو أكثر من العذابات و الدماء و الدّموع .
من يمكنه اليوم و غدا أن يتحمّل مسؤوليّة كهذه أمام التاريخ و أمام الله ؟