القول ان المتدخلين الخارجيين في الوضع التونسي لا يدافعون عن قيم الحرية والديمقراطية بقدر ما يبحثون عن مصالح بلدانهم لا يمثّل اكتشافا خارقًا حتى يخرج علينا أرخميدس السياسة عاري العقل يردّد بصوت مرتفع "وجدتها، وجدتها". فذلك أمر معلوم بالضرورة ولا يستحق ذكاءً خارقًا. ولا موجب لأن يوشّح به البعض مقاربته ليجعل منه حجّة لاتهام معارضي الانقلاب بالعمالة والولاء للأجنبي. الفاعل الخارجي يحرص على حفظ مصالحه فقط. ولا شيء سوى ذلك. وقد قال جو بايدن يوم 16 أوت 2021 معلقا على سقوط كابل:
"نحن لا نحارب خارج امريكا لبناء دولة او إقامة ديمقراطية لآخرين ليسوا مستعدين للدفاع عن أنفسهم، بل نذهب فقط للدفاع عن الشعب الأمريكي ومصالحه".
هذا المعنى لا يحتاج فطنةً استثنائية أو وحيا إلهيا. معرفة هذه الحقيقة لا تحتاج عقل افلاطون ولا ذكاء ستيفان هاوكنغ، فهي من بديهيات الحسّ السليم. وإدراكها يمر عبر نقاء السريرة ولا يستوجب عبقرية مذهلة.
تُتَّهم حركة النهضة بأنها استدعت امريكا والاتحاد الاوروبي وتركيا وليبيا والجزائر وقطر وحماس. وحشدتهم جميعا للتصدي للانقلاب !! يا للقوة الرهيبة التي تجعل كيانا حزبيا جاء بعد سنوات طويلة من السجون والمهاجر والتشريد بهذه القدرة!!
تُتَّهمُ حركة النهضة بجمع كل هذه القوى الثقيلة، والحال انها لم تستطع أن ترفع الاقامة الجبرية عن أحد أبنائها. تتهم بحشد كل هذه الدول والقوى والحال انه يقال لها إنك أعجز من أن تقودي حكومة او حتى تشاركي فيها او أن تجدي حلولا لمشاكل شركة الفسفاط وتوفير آلات الاكسيجين وايجاد حلّ لعمال الحظائر والمعطلين عن العمل وانك أعجز من ان تحكمي تونس او تجدي حلاًّ لأبسط معضلاتها !! أي عقل يقبل هذا الادعاء!؟
باختصار العقل الفطن يشقى في هذه البلاد.
من وما الذي جلب التدخل الاجنبي وألقى بتونس في خضمّ صراع الفيلة وأوشك على تهميش القرار الوطني؟
الانقلاب الذي أقدم عليه السيد رئيس الجمهورية نَقَلَ تونس من منطقة "الحياد" إزاء الصراعات الإقليمية والنزاعات الدولية ليضعها في عين العاصفة. حوّلها من تلك المنطقة الآمنة التي كانت تملك فيها سيادة قرارها مع قدر لا بأس به من مرونة في التفاعل الذكيّ مع العامل الخارجي، فلا صدام ولا تبعية، وألقى بها في قلب الاشتعال الاقليمي والدولي الذي يوشك ان يُضعف قرارها ويفتكّه منها.
الانقلاب أخرج تونس من منطقة "أمان" سياسي وعسكري إقليمي ودولي ووضعها في خضمّ احتكاكات ترهق قدراتها. فهي لا تملك، مقارنة ببقية المتدخلين في المعادلة الاقليمية والدولية، من أسباب القوة ما يقيها محاذير هذه المغامرة، فضلا عن التأثير في مجرياتها.
الوضع في تونس قبل 25 جويلية 2021 كان سيّئًا جدا. ولكنه الان أسوأ بكثير. فالمشكلة قبل الانقلاب كانت وطنية، لكنها أصبحت بعده وبسببه دولية. قوة الجذب المغناطيسي التي تحدثها دوامة الصراع الدولي في المنطقة تنهك القوى الكبرى وتبتلع الدول ذات الأحجام المتوسطة فما بالك بما دونها.
خطاب الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة رحمه الله في البالماريوم وهو يناظر الزعيم الليبي معمر الڤذافي رحمه الله يحضر في هذا السياق بقوّة.
كان بالإمكان الاهتداء إلى حلّ ضمن الاليات التي توفرها التجربة الديمقراطية الوطنية. مثل الاتفاق على اجراء انتخابات مبكرة وتعديل القانون الانتخابي وتغيير بعض فصول الدستور او تنظيم استفتاء على النظام السياسي. ومن ثمّة نغلق الباب أمام التدخل الخارجي بكل أشكاله ويبقى الحل وطنيًّا بامتياز. لكن الانقلاب رفض مبادرة الحوار التي قدمها اتحاد الشغل وأطلق شرَر السب والشتم في كل الاتجاهات وأقدم على خطوة اسقطت تونس وسط دوامة النزاع الاقليمي والدولي.
الارتقاء بتونس إلى مستوى المنافسة الدولية يكون بتوفير كل عناصر القوة الناعمة والخشنة. ومقارعة القوى الخارجية لا تكون بالتمني ولا بالنوايا الحسنة ولا بخطابات السب والشتم وإثارة انفعالات الحماس. وإنما باستجماع كلّ شروط العزم في كنف الهدوء والرصانة السياسية والتخطيط الصامت. وأوّلها تمتين الجبهة الوطنية الداخلية لتحصين الوطن ضد الاختراق.
صحيح أنه لم يعد أمام البلاد سوى قليل من الوقت، ولكن ما زال لدى أبنائها الكثير من الصدق. والصدق ضمان الحلّ.