تتتالى التصريحات والمواقف الملفتة من قِبل قيادات من حركة الشعب وحركة تونس الى الامام وبعض القيادات اليسارية بالاتحاد العام التونسي للشغل والتي عرفت بمواقفها الداعمة لرئيس الجمهورية.
وهي تصريحات تعبر عن حالة من القلق الحاد فاق قدرتها على تحمّل الاداء السيء للسلطة. تلك الاطراف تشعر بالتورّط في خيار سياسي خاطئ وله عواقب غير محمودة عليها والبلاد. ولكنها ما زالت لا تستطيع الخروج منه، ولذلك فإنها تتلمّس سبل الانقاذ الذاتي باحتشام وحذر.
هذا القلق مرشّح لمزيد التطور. وقد ينتهي به الأمر الى مآلات أسوأ. وقد ذكرتُ في تدوينة سابقة أنّه كلما تأخّر التدارك ارتفعت الكلفة. وهو نفس ما ذكره القيادي في حركة الشعب خالد الكريشي أخيرا.
تلك الاحزاب احتفت في البداية بالانقلاب وابتهجت بإقصاء حركة النهضة من المشهد بقوة آلة الدولة. ورغم أنّها بدأت ترصد مؤشرات مبكرة تصدر عن السلطة تؤكد ان التوجه ليس على ما يرام، ورغم أنّها عاينت محطات دالة على أنّ الحكم آيل حتمًا الى الفشل، فإنّها لم تستطع كبح اندفاعها في مجاراة الانقلاب. وآثرت الانتظار والصبر عسى تُحدث الأقدار أمرًا.
ظلت تلك الاحزاب تُسرّ القلق خوفًا وأملًا:
- الخوف من ضعف الانقلاب وعزلته فيما لو فكّت ارتباطها به، وبالتالي تقهقرها هي وخسارتها من بعده، ومن ثمة، وهو هاجسها الاكبر، عودة الاسلاميين الى المشهد موشّحين بشرف الموقف وأبرياء من كل التهم.
- والأمل، رغم ضعفه، في تصويب ما يسمّونه مسار 25 جويلية.
لكن الأمل بدأ في التضاؤل منذ اليوم الاول للانقلاب حتى تبدّد أو يكاد. نفد صبر التحمّل وتبخّر وقود الأمل. وبدأت الكلفة السياسية والادبية لتحمّل أخطاء السلطة وانحرافاتها تتجاوز بكثير حدود المعقول ومستطاع تلك الاحزاب من التحمّل. وأدركت أنّها تراهن على سراب. وأن الكلفة في تزايد وان استمرارها في دعم الانقلاب سيكون بثمن لا يعوّض: شرف الموقف وشهادة التاريخ وعسر العودة. باختصار، أدركت تلك الاحزاب أنّ الكلفة قد تكون مستقبل وجودها اصلا.
التصريحات التي بدأت تأخذ مسافة واضحة عن الانقلاب وتحاول ان تتمايز عنه قوبلت بردود افعال تراوحت بين الاستهجان والريبة والتشكيك والشماتة والسخرية والرفض. وبغض الطرف عن تلك الاخطاء اللغوية التي حطّت من مقام المعنى ولطّخت القصد وأصابته في صدقٍ، فإنّي اعتقد أنّ هذا التحوّل جيّد وينطوي على قدر من الشجاعة السياسية غير هيّن. فليس من اليسير أن يغالب حزب عقائدي بمرجعية ايديولوجية راسخة منازع المقاومة فيه ويبدأ في التحرك باتجاه منطقة الاعتراف بالخطأ.
ليس أثقل على الفاعل السياسي، وهو يتحرك ضمن شبكة معقّدة من العوامل الكابحة والمقاومة للتغيير ذاتيا وموضوعيّا، من أن يُقرّ بالخطأ. الموقف الحكيم والسليم هو ان نقابل هذا التوقف النقدي وهذه المراجعة بالتقدير والاحترام وليس بالإنكار والرفض. بالتشجيع والترحيب وليس بالصد والتشكيك. وفوق ذلك وقبله وبعده، كفى بالله والتاريخ والناس شهداء على ذلك. فلا أحد وصيّ على الحقيقة. ولا أحد يقف على بوّابة الحق يقبل من يشاء ويرفض من يشاء.
صحيح أنّ إشعاعات الاختلافات التاريخية مع حركة الشعب وبعض الاطراف اليسارية ما زالت ترتدّ على العلاقات مع الاسلاميين، الشيء الذي قد يخنق المناخات التواصلية ويصمّ الآذان عن الاستماع المتبادل. لكن الركون الى تلك المنطقة يُعدم الأمل. ويورث الأجيال القادمة ثقافة التنافي ويترك جروحًا نفسية غائرة. والرابح خاسر.
كثيرا ما نردّد أنّ قيمة الفعل السياسي في خُلُقه. وهو صحيح. وأفضل اختبار لتلك القيمة هو حين يقف خصمك او منافسك أمامك حاملًا معنًى جديدًا ومبديًا امكانات جديدة واستعدادات جديدة فتقابله بغير ما يتناسب واستعداده ذاك. اختبار الاختلاف عسير جدا لا يتحمّله الا ذوو الهمة العالية ممّن تعلّقت آمالهم بفضاء رحب يجمع من كل الافاق العقلية. الحقيقة في السماء واحدة ومتطابقة، وعندما تحطّ على الأرض تتشظّى وتتكاثر فيختلف الناس. وإذا لم يتمثّلوا قيم التنوع والاختلاف ولم يقبلوا بعضهم فإنهم يقتتلون. والرابح خاسر.
قد يقال إن جسر العبور من موقف إلى آخر هو الاعتذار. وهذا صحيح تماما. لكنني أقول إنّ الاعتذار موجود ضمنًا في صلب الاعتراف بالخطأ وفي الوعي بالكلفة العالية للاستمرار فيه. وليس أدوم من عمل يُبنى على الصدق. فقوة الموقف هناك. وضعفه هناك.