بصرف النظر عن الموقف من القرارات الاستثنائية للرئيس التونسي وهل هي بمثابة تصحيح للثورة التونسية ام انها بدايات انقضاض عليها من قبل قوى الثورة المضادة لإجهاض آخر ثورة عربية لا تزال على قيد الحياة…
نقول بصرف النظر عن ذلك الا ان السؤال الاهم الذى آن الأوان أن نواجه به أنفسنا، هو كيف استطاع قيس سعيد ان يفعلها؟
وبمعنى ادق كيف يمكن لشخص واحد ولو كان رئيسا للجمهورية، ان يتمكن بجرة قلم من الهيمنة على كل هذه السلطات في يده وحده، بعد ثورة تفجرت ضد الاستبداد بالأساس، ورغما عن كل هذا الزخم الثوري وكل هذه الاحزاب والقوى الثورية او العريقة، وكل هذه المؤسسات البرلمانية والاعلامية وكل هذه الجماهير التي شاركت في الثورة وكل هذا الوعي الوطني والثوري، وكل هذا الاعداد من المفكرين والمثقفين والقيادات الذين تتميز بهم تونس عن عديد من الاقطار العربية؟
ان نجاحه في ذلك، حتى لو لم يستمر طويلا، يعكس هشاشة النظام الذى تم تأسيسه على امتداد العشر سنوات التي تلت الثورة. يتحدث سعيد ومؤيدوه عن فساد وفشل النظام السياسي التي تم تأسيسه بعد الثورة، ولكنى اطرح هنا المسألة من منظور آخر وزاوية مختلفة وهى هشاشة النظام الجديد وعجزه عن الدفاع عن نفسه وتثبيت الركائز التي قام عليها، فلقد ظهر انه نظام من ورق، يستطيع أي حاكم او رئيس ان يقضى عليه ويفككه ببضعة قرارات رئاسية.
و يتمسك المعارضون للقرارات الاستثنائية بدستور الثورة، ويتهمون قيس سعيد بانه اصبح رئيسا غير شرعي لأنه خرج عن الدستور وعصف به.
حسنا، ولكن ماذا يمكن لهم ان يفعلوا في مواجهة رئيس معه كل السلطات ومعه كل مؤسسات الدولة العسكرية والامنية والمالية والاعلامية، بينما لا يملكون هم سوى (ورقة) هي الدستور التونسي الجديد. اظن ان هنا بالتحديد تكمن الاجابة على السؤال المطروح؟
فبشكل من الاشكال استطاعت مؤسسات الدولة العميقة وحراس النظام القديم في الثورة التونسية وكل الثورات العربية ان تمتص كل هذا الزخم الشعبي الثوري وتقزمه وتقيده بخريطة طريق مرسومة ومكررة في كل الثورات: لا تتضمن سوى اعداد الدساتير والاستفتاء عليها واجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.
وكان بالطبع يلزم لتمريرها وتجميلها في اعين الشعب وثواره واقناعهم بالاكتفاء بها، اضافة بعض المُقبلات والمغريات الاخرى، مثل اطلاق عدد من الحقوق والحريات التي كانت محظورة، والتي اثبتت الاحداث فى اكثر من قطر عربي، مدى سهولة القضاء عليها والعصف بها من قبل السلطات الحاكمة.
اما مؤسسات الدولة وثرواتها وميزانياتها والطبقات الحاكمة فيها وعلاقاتها الخارجية. الخ، فبقيت في حوزة وتحت سيطرة النظام القديم والدولة العميقة. وكل اشكال الفشل التي منيت بها القوى التي حاولت ادارة البلاد بعد الثورة سببها انهم لم يسمح لهم ابدا بوضع أياديهم على المفاتيح والمفاصل الرئيسة للدولة التي تمكنهم من القيام بهذا الدور.
في مصر على سبيل المثال وفى الشهور القليلة التي تلت قيام ثورة يناير، كنت كثيرا ما احذر في عديد من الكتابات والندوات والبرامج الفضائية ان أي رئيس منتخب جديد سيصطدم حين يبدأ في ممارسه مهام منصبه بان الملفات الرئيسة خارج نطاق صلاحياته:
• فالاقتصاد يدار من قبل نادى باريس وتعليمات مؤسسات الاقراض الدولي.
• وملف العلاقات المصرية الامريكية مع القوات المسلحة المصرية.
• وملف كامب ديفيد والعلاقات مع (اسرائيل) ومع فلسطين تديره المخابرات العامة.
• اما ملف الثروات المصرية فتحت سيطرة طبقة الرأسماليين ورجال الاعمال من وكلاء كبرى الشركات الامريكية والاوروبية.
• وكل ذلك في حماية حاضنة مليونية من كبار وصغار رجال الدولة وموظفيها في كل المؤسسات السيادية وكل الوزارات والمصالح والدهاليز الحكومية.
• وهم الذين ينتمون ويخدمون فى النظام القديم/الجديد، ويضعون ايديهم على ميزانية الدولة السنوية بكاملها، ويتحكمون في كل صغيرة وكبيرة من شئون البلاد وفى مصالح الناس واحتياجاتهم الجارية وبيدهم ايقاف المراكب السائرة وحجب واخفاء السلع والخدمات الاساسية وبيدهم العكس.
• تحيطهم ايضا شبكات مليونية عنكبوتية اخري من جماعات مصالح من الشركات والافراد الذين ارتبطت مصالحهم واعمالهم ونفوذهم بمؤسسات الدولة ووزارتها وهيئاتها المختلفة.
• وهكذا
اذن فنحن في مصر ايضا قد اعطونا مجرد (ورقة) تسمى بخريطة الطريق، حشرتنا جميعا في مسار ضيق ومحدود وهامشى لنلهو به ونتصارع ونتزاحم عليه لتعطينا شعورا زائفا باننا بصدد تحقيق مكاسب ومنجزات ثورية عظيمة وهمية.
وبجرة قلم تم انتزاع كل هذا في اسابيع معدودات.
وقس على ذلك، في السودان ايضا، فبعد ان ثار السودانيون وسقط الشهداء، لم تسفر الثورة الا عن استبدال البشير (1) بالبشير (2)، في ظل ذات النظام القديم، ولكن بوجوه جديدة.
أما باقي الشعب وقواه الثورية فتم اعطائهم ورقة، مجرد ورقة، اسمها هذه المرة الوثيقة الدستورية.
اما كل السياسات والقرارات الكبرى مثل الخضوع التام للولايات المتحدة لرفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب ومثل التطبيع مع (اسرائيل) ومثل تطبيق تعليمات وروشتات صندوق النقد الدولي المشهورة والمطبقة في كل بلادنا .. الخ فهو قرار رئيس المجلس السيادي ونائبه.
ان تاريخنا العربي عامر بالخدع الكبرى المماثلة منذ عقود طويلة، حين تنتزع منا اوطاننا وحقوقنا، مقابل اوراق لا تساوى قيمة الحبر الذى كتبت به:
• ففى 1948 اعطى ما يسمى بالمجتمع الدولي ممثلا في الامم المتحدة (ورقة) للفلسطينيين تعطيهم الحق فيما يوازى نصف مساحة فلسطين رغم حقهم فى كل الارض، ولكنهم دعموا (اسرائيل) لتحتل وتستولى على 78 % من الارض.
• وفى 1949 اعطوهم (ورقة) أخرى تنص على حق عودة، لم تسعفهم خلال اكثر من سبعين عاما فى اعادة لاجئ واحد من الخمسة ملايين ونصف من اللاجئين الحاليين في بلاد الله الواسعة.
• وفى 1967 اعطوا مصر وباقي الدول العربية التي تعرضت للعدوان، (ورقة) تتضمن قرارا مراوغا يحمل رقم 242 يعلق انسحاب قوات الاحتلال من بعض الأراضي التي احتلتها، على الاعتراف بشرعية الاغتصاب الصهيونى لفلسطين.
• وفى 1993 قدم قادة منظمة التحرير الفلسطينية تنازلا لإسرائيل عن ارض 1948 وتنازلا اخر عن حقهم في المقاومة والكفاح المسلح مقابل (ورقة) أطلقوا عليها اتفاقيات اوسلو، تتضمن اعترافا اسرائيليا بالمنظمة ووعدا بالتفاوض ووعدا بانسحاب لم يتم.
• وفى غزة وبعد كل حرب وعدوان جديد تشنه (اسرائيل) وبعد كل صمود وردع متبادل، يتدخل المجتمع الدولي والامريكان ويوسطون الدولة المصرية لإقناع المقاومة بقبول وقف الاطلاق النار مقابل (ورقة) تتضمن وعودا براقة بفك الحصار عن غزة بعد الحرب.
• اما في الشئون والاحوال الداخلية التي تمس حياة الشعوب ومعايش الناس في الصميم، فحدث عنها ولا حرج؛ فلدينا بفضل الله تلال من الاوراق والوثائق والمواثيق الرسمية من دساتير وقوانين تنص على كل انواع الحقوق والحريات التي تضاهى اكثر بلدان العالم ديمقراطية، قوانين لحماية حقوق ابداء الراي والمعارضة وتأسيس الاحزاب والمنافسة الحرة النزيهة في الانتخابات والتظاهر وضمانات للمحاكمات السياسية العادلة...الخ.
• ولكن الاحوال في ارض الواقع كما تعلمون.
لقد علمتنا تجاربنا وتجارب الشعوب على امتداد التاريخ ان حروب الاستقلال والتغييرات الكبرى والثورات الحقيقية ليست مجرد اوراق ووثائق ونصوص، بل هي النجاح على الأرض في تحقيق تغيرات جذرية ونقلات نوعية في قضايا الاستقلال والتحرر من التبعية السياسية والاقتصادية، وفى عدالة توزيع الثروات وفى الانحيازات والسياسات الاجتماعية والاقتصادية وفى الحقوق والحريات بكافة اشكالها وفى المشاركة الشعبية والفصل بين السلطات وتداول السلطة ومناهضة الاستبداد وكل اشكال الاستئثار بالحكم. وفى اعادة فرز القوى والجبهات على اساس هذه المبادئ والاهداف، مع وهو الاهم على الاطلاق امتلاك المقدرة على حماية كل هذه الانجازات ببناء وتأسيس نظاما جديدا، وهو الامر الذى غاب تماما عن الثورات العربية التي اكتفت بتبني مشروع اصلاح سياسي ودستوري حاولت ان تحققه من داخل مؤسسات النظام القديم، فابتلعهم النظام واجهض مساعيهم.