الاستشارة الإلكترونية لقيس سعيد، بعد نشر محتواها للعموم، غدت شاهدا إضافيا من شواهد زيف نظرية "الشعب يريد". ذلك أن تركيبة الأسئلة و طريقة طرحها في أي استشارة أو دراسة استقصائية هي مرآة للباراديغم الذي يحكمها و هي انعكاس للاطار المفاهيمي الذي ترتكز عليه.
فلو أن الغاية من الاستشارة الإلكترونية كان صدقا تقصي إرادة الشعب كما يزعم صاحبها لكانت أسئلتها مركبة بشكل مختلف تماما عما هي عليه الآن. فالاستشارة التي تبتغي الإصغاء حصرا الى صوت المشاركين فيها ينبغي أن تكون مبنية على إخماد صوت المصممين لها. بمعنى أنها تكون ذات طابع استكشافي بحت و تحتوي أسئلة مفتوحة خالية من التوجيه و من الخيارات المحددة.
فبمجرد عرض خيارات بعينها و إقصاء خيارات أخرى للإجابة عن أسئلة الاستشارة نكون قد خرجنا من براديغم الشعب يريد و سقطنا آليا في براديغم الحزب يريد. وهنا يتبادر إلى ذهن المتابع للشأن التونسي أن الحملة الانتخابية لقيس سعيد كانت تميزت بانعدام البرنامج الانتخابي و التسويق لذلك العدم باعتباره مفخرة للمرشح لا منقصة له.
فلطالما صرح قيس سعيد أنه لا يملك أي برنامج انتخابي من باب فسح المجال للشعب أن يحدد برنامجه بنفسه. و لا شك أن تلك الحيلة الكسولة قد انطلت على الناخبين تماما كما انطلت على الجامعة التونسية حيلة كسولة أخرى من إبداع قيس سعيد نفسه مفادها أن شهادة الدكتوراه ليست ضرورية للتدليل على الكفاءة العلمية للأستاذ الجامعي و أن بإمكان هذا الأخير الاستمرار في وظيفته المؤقتة بصفة استاذ مساعد حتى بلوغ التقاعد.
إذن فالاستشارة الإلكترونية ليست في حقيقة الأمر سوى تدارك لعمل متأخر كان ينبغي إنجازه قبل انطلاق الحملة الانتخابية لسنة 2019 تماما كما أن الدكتوراه الفخرية التي حصل عليها قيس سعيد من الجامعة الإيطالية ليست سوى تدارك في سيرته الذاتية لشهادة علمية كسل عن إتمامها. ذلك أن أسئلة الاستشارة و خياراتها ليست إلا ملء لفراغ داخل هيكل برنامج انتخابي ذا طابع حزبي هو الآن بصدد الإنجاز في دورة تدارك يتحمل كلفتها دافع الضرائب دون خضوع لرقابة دائرة المحاسبات.
بناء على ما تقدم، فإن مشاركة المواطنين في الاستشارة الإلكترونية، فضلا عن كونها تعد اعترافا بمسار انقلابي لا دستوري، و اضفاء لمشروعية زائفة فإنه يعتبر انخراطا في عمل ذا طابع حزبي صرف لفائدة قيس سعيد و حزبه القائم أو القادم بقطع النظر عن توصيفه أو تسميته.
و ما لم تكن هناك محفزات أو مكرهات على الطريقة السيساوية للإنخراط في الاستشارة الإلكترونية، فإن هذه الأخيرة ستكون بمثابة التصويت الشعبي غير المراقَب ولا الشفاف حول شعبية قيس سعيد أيا كانت الاجوبة. فجميع الاجوبة تخدمه ما دامت موجوده. و غياب الرقابة و الشفافية حول عملية التصويت هذه ستجعل نتائجها بالضرورة مضخمة لفائدته ولو ضعُفت. فكلما غابت الرقابة و الشفافية حل محلها هوى السلطان.