تلك عبارة منسوبة لمصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي، غير أنها غدت محل تندر وتهكم من مساندي انقلاب قيس سعيد على اعتبار أنه لو كان دستور 2014 بذلك الحسن لما كان حال الشعب التونسي ما كان عليه قبل 25 جويلية و لما تيسر الانقلاب عليه.
هذا الاستنتاج مبني على منطق معتل لا يختلف عن ذلك الذي يستنتج من واقع حال المسلمين البائس في زماننا هذا ما يثير الريبة حول أفضلية القرآن الكريم على الكتب السماوية المتداولة اليوم. لا شك في أن مقولة مصطفى بن جعفر تلك لا تتعلق بالدستور من حيث محتواه بقدر ما تتعلق به بصفته نتاج لمسار تأسيسي متميز.
ناهيك أنه حظي يوم التصويت عليه بإجماع منقطع النظير (200 صوت على 217) يؤهله فعلا لأن يكون أكثر الدساتير في العالم توافقا حوله بما يجعل منه بديهة، متميزا عنها. إضافة إلى ذلك فإن دستور 2014 في الآونة التي وصفه فيها مصطفى بن جعفر بأنه أحسن دستور وضع للناس كان حينها أحدث دستور في العالم من حيث الولادة. وهو ما يعني أن تأسيسه اعتمد على تجارب جل ما سبقه من دساتير العالم الناجحة و أنه بذلك قد أخذ، نظريا على الاقل، أفضل ما فيها على الإطلاق بالشكل الذي قد يجعل منه فعلا أفضلها و لو إلى حين.
ذلك أن ما سبقه من دساتير بما فيه العريق منها لم تتوفر لمؤسسيها ما توفر للمجلس التأسيسي التونسي من معطيات حول أفضل الممارسات (Best practices) في مجال الدسترة. وهو الأمر الذي نتج عنه تشريع هيئات دستورية هي من أرقى و أحدث ما يمكن أن يشرع له مشرع في عصرنا من قبيل الهيئة الدستورية للتنمية المستدامة و حقوق الأجيال القادمة، على سبيل الذكر.
زد على ذلك أن دستور 2014 هو دستور الثورة، ثورة الربيع العربي التي هي في حد ذاتها أحسن ما أنتجته الشعوب العربية منذ استقلالها، في نظر الأحرار. أما العبيد الذين يعتبرون الثورة انتكاسة للشعوب فإن معاداتهم للدستور من هذا المنطلق هو سبب اضافي يعزز فكرة أنه قد يكون أحسن دستور في العالم، إذ يناصبه العداء أكثر من فيه معاداة للحرية و لانعتاق الشعوب.
تجارب اللاحقين، هي كذلك مما يؤهل دستور 2014 لأن يتبوأ بجدارة مرتبة الإحسان بين دساتير العالم. لاحظ المطبّ الذي وقعت فيه مؤخرا التجربة الديمقراطية الليبية بتأخير التأسيس و تقديم ممارسة الحكم على غير هدى دستوري. فكانت النتيجة عجز عن إجراء انتخابات لنظام سياسي لم يتحدد شكله بعد. ولقد لفت تأجيل الانتخابات الليبية إلى أجل غير مسمى نظر الملاحظين إلى أفضلية المسار التأسيسي الذي سارت عليه تونس كمرحلة سابقة و مؤطرة لأي ممارسة للحكم لاحقة.
هذا وإن حال الدساتير من حيث تأمينها لا يختلف كثيرا عن حال الحواسيب و الهواتف الذكية. فكل جيل جديد يمتاز عن سابقيه بمزيد من الأمن السيبراني إضافة الى الفاعلية. مع كل جيل جديد تتعزز الجوانب الأمنية من خلال سد ثغرات تم اكتشافها في ما سبقها من أجيال.
دستور 2014 شهد له قيس سعيد بتقدمه منقطع النظير في مجال التأمين الدستوري من خلال ما يحفه من أقفال مكبلة كما ذكر هو بلسانه، انتقاصا. أقفال، كما أبدع النائب المناضل عبد الطيف العلوي في وصفها، يعجز اللصوص عن التلاعب بها و ان كانوا متخصصين، أستاذة في القانون الدستوري. إذ لولا صلابة تلك الأقفال و تماسكها لما أخفقت براعة الخبير المنقلب في إيجاد تخريجات من داخل الدستور نفسه لتمرير مشروعه دون الاضطرار للإنقلاب عليه.
وما قفل اشتراط الانعقاد الدائم للبرلمان في حال اللجوء إلى الفصل الثمانين الا نموذجا على متانة تأمين دستور 2014 بالشكل الذي قد يجعل منه أحسن دساتير العالم حصانة. و ما اضطرار المنقلب إلى تعليق الدستور او معظم فصوله إلا شاهد على إحكام تأمينه. على غرار الهاكر الذي يعجز عن اختراق جدار الحماية (Firewall ) لمؤسسة ما فيتركه جانبا و يلتجئ إلى تقنيات الهندسة الاجتماعية (Social Engineering ) لقرصنة منظومة المؤسسة من نوافذها الخلفية.
و كما أن اضطرار القراصنة لاختراق الأمن السيبراني للمؤسسات من مسارب خلفية هو دليل على متانة جدران الحماية فيها فإن اضطرار المنقلب لخرق الدستور خروقات جسيمة لتمرير مشروعه لا يدل بتاتا على ضعف في الدستور، بل على العكس، يدل على أنه من المتانة بحيث لا يمكن تجاوزه بدون ارتكاب جريمة الخرق الجسيم له.
أما التدليل بالنجاح في إحداث خرق بالدستور بواسطة آلة حادة (دبابة داخل مبنى البرلمان تعطل قفل الانعقاد الدائم) كدليل على قصور في الدستور فهو بمثابة اتهام لائحة إجراءات الوقاية من كوفيد بالقصور والحال أنها غير مطبقة من طرف الأفراد المعنيين بها. أو بمثابة الطعن في فاعلية الإشارات الضوئية في تنظيم حركة المرور بناء على ارتكاب مخالفة تجاهل الضوء الأحمر من طرف السائقين.
طبعا لا نرمي بتاتا من هذا الطرح أن نخلص إلى وصف دستور 2014 بالكمال أو الخلو من العيوب أو من فرص التحسين. إنما أردنا فقط رفع مناط التهكم و الاستهزاء البذيء بمقولة أنه أحسن دستور في العالم في حين ان قائليها لا يقولونها الا من باب الاستبشار و التفاؤل و الفخر بثورة، حقيق على كل ذي وعي ثوري و نخوة وطنية تمجيدها و الاعتزاز بمكتسباتها.
أما إذا تركنا المشاعر الوطنية جانبا فبإمكاننا القول بكل موضوعية و تجرد أنه، برغم عيوبه هو أحسن دستور لكن لأسوء نخبة سياسية، كرّمها فأهانته وأعزها فأذلته و صانها فانتهكت حرمته و عطلته.