عادت مسألة مراجعة نظام الاقتراع، وفكرة الانتخاب على الافراد، إلى الواجهة خاصة بعد تصريح قيس سعيد اثناء احياء ذكرى وفاة الزعيم الحبيب بورقيبة . وذلك، بعد ان تم الترويج لفكرة أن تشرذم المشهد البرلماني وصعوبة تأليف الحكومات وعدم وضوح الصلاحيات على راس الدولة حتى اصبحنا نتحدث عن " الرؤساء الثلاثة" ولكل واحد منهم دولة داخل الدولة واعتبر الكثيرون ان هذا نتيجة لنظام الاقتراع الحالي الموصوف بالفاسد والفاشل، وأنه سبب من أسباب أزمة الحكم الحالية وعدم الاستقرار ، إذ يسمح للأحزاب بأن تتلاعب بأصوات الناخبين وتعطي الاولوية لأحزابهم على حساب مصلحة الوطن واستقرار الحكومات والبديل المقترح اذن فهو الاقتراع على الأفراد في دوائر صغرى، ربما تكون العمادات وعددها :2085=عمادة اي مناطق بكامل تراب الجمهورية.
فهذه الدوائرالصغرى، قابلة لسيطرة الناخبين على المنتخبين، ووقف حد لنزيف السياحة الحزبية وانتقال المنتخب من كتلة نفوذ الى اخرى استجابة لمصالحه الخاصة كما ان عبر الدوائر الصغرى يمكن للناخب تقييم المترشحين حسب نزاهتهم وكفاءتهم باعتبار قربهم منه ، قبل انتخابه، ليتشكل برلمان حقيقي ينبع من الشعب ولا ينبع من ارادة الاحزاب ومصالحها من خلال القائمات التي كانت تُعد على هذا الاساس .
لكن لا ننكر ان الاقتراع على الأفراد في دوائر صغرى يصطدم بعوائق عديدة متصلة بخصوصية الواقع التونسي وأول هذه العوائق هو عدم ملاءمة التقسيم الإداري الموجود للاقتراع على الأفراد، وبالتالي، ضرورة إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، مع ما يمكن أن يثيره ذلك من تجاذبات سياسية واجتماعية.
فلا يمكن اعتماد المعتمديات (279 معتمدية) كدوائر انتخابية للاقتراع على الأفراد، نظرا للفارق الكبير في عدد السكان، الذي يتراوح بين 10 آلاف و120 ألف. كذلك الأمر بالنسبة إلى العمادات المعتمدة في مشروع قيس سعيد، إذ نجد عمادات لا يتجاوز عدد سكانها بضعة مئات، مقابل عمادات أخرى بها اكثر من 35الف ساكن كما لا يمكن اعتماد البلديات ال :350 نظرا للفارق في عدد السكان من 4000 ساكن الى 650.000ساكن لذلك فان تنظيم انتخابات تشريعية على هذه الشاكلة اي على الافراد سيخرق مبدأ المساواة بين المواطنين، ويؤدي إلى تفاوت كبير في قيمة أصواتهم.
إذن، أي بديل لنظام الاقتراع الحالي يكون قائما على الاقتراع على الأفراد، يمر بالضرورة عبر تقسيم جديد للدوائر. فتقسيم الدوائر الانتخابية غالبا ما يشكل امتحانا بالغ الحساسية، ومصدر شكوك واتهامات، نظرا لأنه استعمل في كثير من الأحيان لخدمة مصالح أحزاب او اطراف على حساب أخرى، وفق مبدا الجيريمانديرية Gerrymandering: (حيث قبل الانتخابات حرصاً على نجاح السلطة الحاكمة لبعض المرشحين الموالين لها تعيد رسم الدوائر الانتخابية بطريقة غير متكافئة من خلال تقليص دوائر الموالين لها وتوسيع دوائر المعارضة حتى تبقى متنافسة ومشتتة، لتحقيق الأغلبية بين الناخبين في هذه الدوائر.(لاسيما وان منسوب الثقة بين الحساسيات السياسية ضعيفا للغاية ان لم نقل مفقودا في هذه الوضعية، فأي مقترح تقسيم ترابي سيخضع لحسابات الربح والخسارة من مختلف القوى السياسية، خاصة بعدما خاضت هذه الأخيرة استحقاقات انتخابية عدة في السنوات الأخيرة وتكونت لها فكرة عن مكامن قوتها او ضعفها في كامل تراب الجمهورية.
هذا دون أن نتجاهل الاعتبارات العشائرية والفئويةcorporatisme ، التي قد تستيقظ وتنشط مع أي تقسيم ترابي جديد. هذا الخوف هو الذي يفسر عدم مغامرة أي حكومة بإعادة النظر في التقسيم الترابي للدولة رغم طرحه للدرس سابقا ، باستثناء إحداث بلديات جديدة في سنتي 2016 و2017. واقتصر الأمر، وقتها، على استكمال تغطية التراب الوطني ببلديات، حدودها مقيدة بحدود العمادات التي تتشكل منها البلديات المحدثة او التي تمت توسعتها ، ورغم ذلك برزت الاحتجاجات حول حدود بعض البلديات..
خطر القبلية و الزبونية السياسية: صحيح أن الاقتراع على الأفراد في دوائر صغرى معمول به في عدد كبير من الأنظمة الديمقراطية. لكنه قد لا يتلاءم مع الواقع التونسي، بالنظر لجملة من الاعتبارات تجعل مخاطره تفوق إيجابياته المفترضة. فقد أثبتت بعض الأحداث عقب جانفي 2011 أن منطق العشائرية لم ينقرض تماما، وأن عودته إلى السطح في بعض المناطق تبقى واردة، وإذا كان دور العامل العشائري في الانتخابات التشريعية السابقة محدودا فإن الأمر قد يختلف في صورة تنظيم انتخابات في دوائر صغرى، مع ترشحات فردية وعلى دورتين.
إذ من الوارد أن يصبح التنافس في دوائر معينة بين مرشحيْن (أو قائمتين ثنائيتين كما اقترح البعض) يمثل كل منهما انتماء قبليا، أو حتى عائليا، سيتحول التنافس في هذه الحالة لا بين أحزاب أو برامج أو أفكار، وإنما بين عائلات أو عشائر، مع ما يمكن أن ينجر عن ذلك من انزلاقات.
كما أن نظام الاقتراع على الأفراد قد يشجع أيضا ظواهر أخرى كالزبونية السياسية وشراء الأصوات. فلئن كانت إحدى حجج المدافعين عن هذا النظام هي اطلاع الناخبين على المترشحين، وماضيهم وخلفياتهم، وبالتالي قدرتهم على حسن الاختيار وعلى إقصاء الفاسدين منهم، فإن الواقع من المحتمل ان يختلف عن ذلك. لقد استطاع بعض البارونات المحلية، التي تحوم حولها شبهات فساد أو تهريب، ترؤس قائمات والفوز بمقاعد في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
ولعل قدرة هؤلاء على التأثير تصبح أكبر في الدوائر الصغرى، وكذلك شراء الأصوات والولاءات. فعندما يكون الرهان مقعدا واحدا، وحجم الدائرة وبالتالي عدد الأصوات محدودا، فإن هذه الظواهر قد تستفحل وتتجذر اكثرفي بيئة انتشر فيها الفساد وغابت فيها قيم المواطنة.لا سيما وان هذا النظام، الذي يرجى منه تنقية الحياة السياسية ومكافحة الفساد السياسي عبر رقابة ديمقراطية أكبر من الناخب على المُنتخَبين، قد يؤدي، على العكس، إلى بروز بارونات محلية معروفة بفسادها، وإلى التشجيع على شراء الأصوات وتفشي ظاهرة المال السياسي الفاسد.
كما ان الاقتراع على الافراد سيؤدي الى إقصاء المرأة التي وجدت في التناصف وسيلة لبلوغ مكانة هامة في المشهد السياسي عند اعتماد نظام القائمات وفرض التناصف صلبها.وربما كذلك نفس الشيء للشباب.
في الختام أ ليس من الافضل تبنى الاقتراع حسب القائمات مع المزج؟le panachage