يشعر التونسيون منذ مدة بأنهم مقبلون على عاصفة هوجاء تأتي في طريقها على الأخضر واليابس. ولعل بعضهم بدأ «ييأس» من حدود تلك العاصفة، لا لأنه يأمل حدوثها، ولكن لأن انتظار المصيبة كثيرا ما يكون أكثر ألما على النفس من المصيبة نفسها. إن العاصفة الهوجاء تحتاج كي تحدث إلى التقاء عدد كبير من العوامل. وما ألم الانتظار إلا لكون تلك العوامل ما فتئت تتراكم في الفضاء التونسي تراكم السحاب الداكن.
سيقال: إنها مبالغات العادة. لقد عاشت تونس صدمات كثيرة. ولكنها كانت دائما تخرج منها بسلام. فليست تونس من البلدان التي تتقدّم خطوة حين تكون على جرف هار. فالتونسي قد تربّى على الواقعية بحيث يعرف كيف يتأخر إلى الوراء حين تقتضي الضرورة.
لمن يحتجّ بذلك نقول: الأمل أن تكونوا على حقّ. ولكن في الأثناء عن أيّ خطوة إلى الوراء تتحدّثون؟ لقد انتهى ذاك الزمن. فرأس الدولة اليوم منتشية بخمرة «الارتفاع الشاهق» ورفض العودة إلى الوراء. ولئن كان الكثيرون يتوجسون من الخطوة القادمة مخافة أن تأذن بالانهيار، فإن كثيرين أيضا يعتقدون أن الخوف من الجرف الهاري هو أصل الداء في تونس. فلا جرف ولا انهيار. إنما هي أوهام تكبّل إرادة التغيير. ومثل هذا الصنف كمثل الطفل لا يتعلّم خطر النار إلا حقّ اليقين، أي بعد أن يكون قد اكتوى بها.
صحيح أن عصور الحكمة قد مكّنت تونس في الماضي من تجنّب الأسوإ. وصحيح أن عواصف الانهيار نادرة في التاريخ. ولكن ألم يكن ذلك أيضا صحيحا في حالة الاتحاد السوفياتي؟ هل حال ذلك بين تلك القوة العظمى وبين الانهيار حين أذنت ساعته؟ ألم تتحمل الإمبراطورية الرومانية من قبل ذلك الكثير من الصدمات طيلة قرون تاريخها الطويل؟ ألم تنته تلك القوة العظمى إلى التفكك والانحلال حين أينعت ثمرتها وآن أوان قطافها؟
يكفينا مصيبة أننا أصبحنا في تونس نحتاج إلى ضرب مثل هذه الأمثلة لنذكّر أصحاب القرار بالمنزلة التي سيتبوّؤونها في التاريخ إذا أدت مغامراتهم غير المحسوبة وأحقادهم غير المبرّرة إلى ما لا تحمد عقباه. ألا يعي هؤلاء أن الرهان هذه المرة ليس مجرّد تغيير زعيم بخلف أو مؤسسات بأخرى، بل هو خطر تحلّل العقد الاجتماعي الأصلي الذي على أساسه بني العيش المشترك، وما ينجرّ عن ذلك من الضرورة اليائسة لإعادة البناء على أنقاض الخراب؟
ولكن السؤال يبقى: أتلك هي وجهتنا فعلا؟ والجواب بصراحة ومن دون مواربة: لا شك في ذلك. يكفي التأمل لما صارت عليه حال علاقات تونس الدولية لاستيعاب مدى قدرة السلطة الحاكمة على التدمير. الخبر المفرح الوحيد هو أننا لم نتجاوز بعد نقطة اللا عودة.
إن حاكم تونس الحالي ليس السبب الأصلي لما يتهدد البلد من عاصفة هوجاء ولما يحفّ طريقه من جرف هار. فهو ليس إلا منتهى تجسيد مسارات ومنزلقات قد بدأت منذ عقود، وكلها تدفع نحو التخلي عن العقلانية والحكمة. ليس قيس سعيد هو الذي حفر الخندق الذي تلامس أقدامنا اليوم شفاه، غير أن خطابه ونظام الحكم الذي فرضه منذ الخمس والعشرين من جويلية قد أمعن في تغذية ديناميكيات الهدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمجتمعي إلى درجة تقرّبنا فعلا من لحظة اللا عودة.
لقد وصل حاكم تونس بانتخابات شرعية لا غبار عليها. ثم فرض حكمه الفردي من خلال دعم شعبي واسع لا نقاش فيه. قد يرى البعض أن في هذه العناصر ما يخفف هول المصيبة. والعكس هو الصواب. إذ أن وصوله إلى منصب الرئاسة، وهو الذي لا يملك من مؤهلات القيادة شيئا إلا إعرابا متصنعا واستعارات سمجة، يثبت الفراغ السحيق الذي غزا العقول. أمّا استعداد الأغلبية الساحقة لتسليم رقابهم لرجل لا يملك من الفهم إلا تكرار القناعة بالحاجة إلى فكر جديد، فإنه دليل على الإفلاس الجماعي تربية وتعليما وثقافة. أما أن يحدث كل ذلك في ظرف إقليمي ودولي متقلّب وخطير، فإنه أمارة على انعدام المسؤولية والتحلل الأخلاقي جماعيا.
لا ينبغي أن يثير فشل قيس سعيد وجماعته في حلّ أي مشكل من مشاكل تونس أي استغراب. فما يدفع للاستغراب حقا هو ما علّقه عليه داعموه من آمال في النجاح. هؤلاء يحتجون بأهوائهم، فتعميهم عن رؤية الفراغ السحيق الذي يتربّع عليه الرجل. وهو ما يعني أن البلد والمجتمع والدولة حتى إن نجحت الآن في الصمود أمام مطرقة الهدم المتهاوية على جميع أوصالها، فإن عوامل الاستسلام للديماغوجيا ستستمر من بعد قيس سعيد. ومن تلك العوامل سذاجة النخب وانتشار الجهل وغلبة الأحقاد واستفحال الحسد وعبثية الغضب وأسبقية الخوف واستشراء الطمع وثقافة التواكل وشبهة النجاح وغياب قيم العمل والجدارة والمنافسة الشريفة. وتلك وصفة لإنشاء الأعاصير لا العواصف. ولا أحد يضمن أن أحدها لن يصيب تونس في مقتل بحيث تفقد شروط العيش المشترك ومقوّمات المجتمع القابل للحياة.
ليس المشكل في الشخص، رغم أنه لا تنبغي أبدا الاستهانة بالأشخاص. إذ تثبت تجارب التاريخ الدور الحاسم للأشخاص حين يتولون مواقع القرار. وإذا كان الشخص المناسب في المكان المناسب لا يكفي دائما لضمان النجاح، فإن الشخص غير المناسب في بعض المواقع الحساسة كاف لجلب الفشل.
مع هذا ليس المشكل الأكبر في الشخص، بل في الجرف الهاري الذي تقف على حافته تونس. المشكل أيضا في ضياع مبدإ التواضع، ذلك المبدأ الضروري للتقهقر من أجل الابتعاد ولو خطوة عن الهوة. ضاع ذاك المبدأ لأنه كان الشرط الذي قام عليه التوافق الذي هيمن على السياسة الرسمية التونسية خلال «العشرية السوداء ».فعسى أن لا نتبع مثل من قال: «لقد كنا على جرف هار، والحمد لله أننا تقدمنا خطوة إلى الأمام».
وإذا فعلنا ذلك سنكتشف أن «البياض» الذي ندعى إليه بعدها ليس إلا وليد الدوار الذي يصيب العقول عند التمعّن في الفراغ. حينها قد نتذكّر عند الانهيار أن في بعض السواد خصبا ونماء وأن في بعض البياض موتا وجدبا.