اختلفت كليلة ودمنة حول الأسد والثور وأيّهما أقوى. انتصرت كليلة للثور. ولكنها سرعان ما فقدت كل حجّة. ففكّرت أنها لن تنتصر على دمنة إلا باستفزازها، فقالت: "إن الدمنة تعني البعرة، والبعرة نجاسة، ولا رأي لمن كانت تلك صفته".
تقطب وجه دمنة غضبا، ولكنها فهمت مراد كليلة، فتمالكت نفسها وقالت: "إنك يا كليلة تعاندين الحقيقة، وترفضين الواقع. وتتوسلين بالبذاءة للتعمية عن الخطأ. وأنا أربأ بك أن يكون شأنك شأن حاكم إيرادستان". قالت كليلة: "وما شأنه ؟" قالت دمنة: "إنه مثلك يا كليلة، كلما أعجزته الحجّة التجأ إلى سمج السباب. وهو مثلك إذ يصيغ السباب في كلام فصيح، غير أنه يحيل على النجاسة وشتّى ألوان البذاءة. ومن ذلك وصفه خصومه بالقاذورات في مزبلة التاريخ أو في قنوات الصرف الصحي. وهو مثلك أيضا إذ ينطلق من سياق الكلمات ليخرجها عن معنى الكلام. ومنه استغلاله لجائحة صحيّة حلّت ببلده كي يصم السياسيين بأنهم جائحة سياسية وفيروسات وسلالات متحوّرة".
أمام هذا التشبيه، شعرت كليلة بخجل شديد، فقالت: "كفا يا دمنة! والله إني لأراك قد قسوت عليّ. لا تغضبي يا صديقتي. إني أقرّ ببذاءة ما أتيت من كلام. فالتمسي لي العذر، ولا تؤاخذيني بزلّة لن تعود". ضحكت دمنة وقالت: "كنت أعلم أنّك تحذقين الاعتبار بالأمثال. وها أنت تتعلّمين من سيرة غيرك، كما تعلّم الناس من سيرتك من قبل". قالت كليلة: "ولكن خبّريني بأنباء إيرادستان وحاكمها وبشأنه مع الناس".
قالت دمنة: "إنه حاكم أحبّه الناس، فتوطّدت أركان حكمه. ثم أتته القبائل تستجير به، وتعلن الولاء له، وتقرّ بالسمع والطاعة لأمره". تعجّبت كليلة، فسألت: "وكيف كان ذلك وهو المعاند للحقيقة والمعاكس للواقع كما ذكرت؟"
ابتسمت دمنة وقالت: "صحيح يا كليلة! إنك لم يصلك خبر شعبه وقبائله". قالت كليلة: "كلاّ! حدثيني ابتداء عن شعبه". سكتت دمنة هنيهة، ثم أجابت: "إن الكلام عن الشعوب صعب. ولكن فلنكتف بذكر أنه شعب يحبّ من الشعر الهجاء دون سواه. ولذا، فإنه لم يجد حرجا في كلام حاكمه عن خصومه. بل إنه رأى فيه خير تعبير عمّا يعتمل في صدره من حنق وغصّة. ثم إنه شعب يعشق الأساطير والخرافات، ويكره رؤية الواقع. أي أنه وجد في عناد حاكمه خير ممثّل لنزواته. إنه شعب يحبّ الحرية ويكره المسؤولية. ولذا لم يجد أيّ مانع في أن يتولّى حاكمه كلّ الصلاحيات من دون قيود دستورية ولا رقابة برلمانية. كما أنه لم يجد غضاضة في أن يقوم هذا الحاكم بتحميل كل المشاكل التي عرفتها إيرادستان في عهده للأشرار من شياطين الداخل والخارج والإنس والجن".
قاطعت كليلة صديقتها سائلة: "لم أفهم ما القصد من القول بأنه يحكم من دون قيود دستورية أو رقابة برلمانية. ألا تعيش إيرادستان في القرن الواحد والعشرين؟ كيف يمكن لأي شعب أن يقبل اليوم بحاكم من دون قيود دستورية"؟ قالت دمنة: "إنه شعب يقول إنه يحبّ الديمقراطية، ولكنه يكره الأحزاب والانتخابات وتقسيم السلطات وتعقيد الإجراءات. إنه شعب يشترط للقبول بالديمقراطية أن تكون ديمقراطيته حقيقية. أي أنها لا بدّ أن توفّر سلطة تنفيذية قويّة ومشخصنة، يكون فيها الحاكم هو من ينهى ويأمر، ويضحك ويبكي، ويقضي ويشرّع، بل "ويهشتك ويبشتك" إن لزم الأمر. ولمّا كان حاكم إيرادستان لا يؤمن من الديمقراطية إلا بالانتخابات التي توصله إلى السلطة، فإنه قد كان في الحقيقة أفضل ممثل للديمقراطية التي يريدها شعبه".
قالت كليلة: "حدّثيني الآن يا دمنة عن قبائل إيرادستان". قالت دمنة: "إن قبائلها كثيرة. وأشهرها نقابة تقول عن نفسها إنها تمهل ولا تهمل. وتلك قبيلة غريبة. إذ توكّأ عليها كل من حكم إيرادستان. ولكن توكّأ عليها أيضا كلّ من ثار على من حكمها. فهي قبل الثورة جزء من النظام، وبعدها رحم للثورة. وهي عند الانتقال الديمقراطي ضمان للديمقراطية، وبعد الانقلاب عليه من أشدّ الرافضين للعودة إليه. وهي زمن التوافق الراعي الرسميّ للحوار، وفي زمن الحكم الفردي الناقد الأكبر للمفاهمات التي تمخّضت عن الحوار الذي رعته".
"إنها قبيلة ناجحة بلا شك؟" ضحكت دمنة وأجابت: "أراك يا كليلة تفهمين السياسة. وإجابتي أن هذه القبيلة أنجح القبائل على الإطلاق. فهي تملك وجها لكل مرآة ورواية لكل سياق. هي زمن الديمقراطية فارض للسياسات من قالت كليلة: دون مسؤولية عنها. وهي زمن الديكتاتورية طوق نجاة لمن يقبل بالتوكّؤ عليها. تصف نفسها بالخيمة. وهي لا تملك من الخيمة إلا ما يشبه الوتد".
سألت كليلة: "وما كانت روايتها زمن حاكم إيرادستان؟" قالت دمنة: "لقد اقترحت عليه أن يتوكّأ عليها كما توكّأ عليها من قبله من هو أشدّ منه. فرفض واستكبر. فظلّت تلحّ عليه وتسعى إلى نجدته. وهو يشيح بوجهه ويكابر. ولمّا تمنّع واستعصم، التجأت إلى الوعيد. فإذا كل ألسنتها، وهي كثيرة، تهدد بالتصعيد. وهي كل يوم تزيد. وكلما سؤلت تجيب: ليس ثمة جديد".
قالت كليلة: "حدّثيني يا دمنة عن باقي القبائل". أجابت دمنة: "لقد استجاب أكثرها لدعوة الحاكم. ولكنهم حين أقبلوا للوليمة عنده، وجدوه غاضبا مزمجرا. ولقد اتّهمهم بالجشع والشره. إذ استقرّ في ضميره أنّهم من المنافقين الذين دخلوا المعركة بعد أن حسمها هو وشعبه، لا يطلبون في ذلك إلا انتقاما من خصوم أو نصيبا من غنيمة. فنالهم من لسانه ما كان قد نال خصومهم".
سألت كليلة: "إن السياسة تقتضي في هذه الحالة الوحدة والالتفاف. فهل حصل ذلك؟" أجابت دمنة: "أنت لا تعرفين إيرادستان يا كليلة. فأحقاد الخصوم فيها لا تردم. والهوّة بينهم لا تجسّر. كل قبيلة فيها تطلب ثأرا، ولكن لا يعلم أحد أصله ولا ديته. لا يا كليلة، لم تتحد القبائل. فهي كغثاء السيل. بل إن منها قبائل أهون من أنف الناقة. ولكنها لا تتحرّج حين تتكلّم أن تملأ الدنيا صراخا، كالطبل لا يعكس ضجيجه إلا خواء جوفه".
قالت كليلة: "لم تذكر يا دمنة قبيلة الحاكم. لا شكّ أنها قويّة ذات منعة. وإلا فكيف يستتبّ له الأمر؟" ابتسمت دمنة وقالت: "إن تلك القبيلة، وتكنّى بالمفسرين، هي من الأساطير التي يسمع الناس عنها دون أن يروها. كلاّ يا كليلة، لم يستتبّ الأمر للحاكم لقوة في قبيلته، بل لحبّ الناس له وبغضهم غيره".
أجابت كليلة: "إن حبّ الناس في السياسة كالرمال المتحرّكة. وقصورها أهون من بيت العنكبوت". قالت دمنة: "ذاك صحيح إلا في حالة واحدة. واسمها عقدة الدجاجة". سألت كليلة: "وما عقدة الدجاجة يا دمنة؟"
أجابت دمنة: "يحكى أن ملكا جمع بطانته. ثم أحضر دجاجة أمسكها من عنقها، وشرع باقتلاع ريشها. كانت الدجاجة تصيح وترتجف حتى فرغ الملك منها حين صارت جلدا من دون ريش. أطلقها الملك في القاعة. ولكنها حين أبصرت الناس من حولها عادت بين رجلي الملك تحتمي بهما. أخرج الملك من جيبه حفنة قمح نثرها أمام الدجاجة، فأكلت، ثم نامت مطمئنة إلى جانبه. بعدها نظر الملك إلى بطانته وقال: "كذلك تحكم بعض الشعوب". "