وأنتم تسخرون من خطبه وتنتقدون مواقفه وتصرخون في كل المنابر بحثا عن البدائل، لا تنسوا ان جلّكم بارك كل اجراءاته وأغمض عينيه عن كل التجاوزات، وشتم كل من دعا الى التريث والحكمة،
البعض كان يبحث عن منقذ "لا يشق له غبار" كي يخلّصه من وضع سياسي بائس أو خصم سياسي عنيد، والبعض الاخر كان يلهث وراء موقع في خارطة سياسية جديدة، لم يكن له فطنة توقع مالاتها.
مستقبلا، سوف لن تختلف بدائلكم، ستبحثون عن "منقذ من المنقذ" ، لنودعه كل احلامنا وامانينا ونسلمه مفاتيح الوطن ثم ننام جميعا قبل ان نستفيق على مصائب اخرى،
لكن حين نصبح شعبا يؤمن بانه منقذ نفسه، وان لا خلاص الا بيده وان لا يتنازل عن حريته لأي شخص، مهما كبر في عينيه، وان الاختلاف بين ابناء الوطن لا يعني العداء، ولا الالغاء، وان التعدد هو سبب غنى الشعوب،وان الفلاسفة والحكماء المستنيرين قد أدركوا منذ زمن بعيد ان الحوار في المجتمعات هو السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة، حينها فقط، نصوّت لأنفسنا، على رأي الشاعر أولاد احمد ونستحق هذا الوطن الجميل ونستغنى عن اشباه الالهة.
الوهم :
كل من يعتقد ان السيد قيس سعيد سيتراجع عن مساره بعد النتائج الهزيلة للانتخابات التشريعية التي سطرها بنفسه، هو واهم وغير قادر ، لا على استحضار احداث الماضي ولا على فهم برمجيات تفكير الرجل ،
- أولا، كانت نسب المشاركات السابقة، منذ 25 جويلية 2021، ضعيفة ومع ذلك فهي لم تغيّر من استراتيجيته ولم تزحزح تفكيره قيد انملة ولم تمنعه من مواصلة طريقه،
- ثانيا، يعتبر السيد قيس سعيد الانتخابات وسيلة للوصول الى بناء نظامه القاعدي، فالديمقراطية الحالية بصيغتها التمثيلية والانتخابية، هي ديمقراطية زائفة ،،،لازالت تؤثر فيها الأحزاب ،ونتائجها غير مهمة، وهي محطة في مسار بدأه منذ 25 جويلية 2021، وبدأ التفكير فيه قبل ذلك بسنوات،
- ثالثا، الشعب الحقيقي هو"الذي يريد ما يريده هو"وهو الذي يتفق مع رائه ويستوعب افكاره، ويستجيب لندائه، بقطع النظر عن العدد ونسب المشاركة ، وحتى وان قاطع الانتخابات 99 بالمائة من الناخبين، فذلك لن يكون الا "بفعل فاعل" لان هناك "مؤامرات"ضد "شعبه النقي والصادق و"أعداء" و"خونة" وهم كل أولئك الذين يختلفون معه، أي نحن ، الأشخاص والمنظمات والأحزاب والهيئات وكذلك أبناء الشعب الذين يغضبون من غياب المواد الأساسية وغلاء الاسعار و رجال الأعمال الذين كُبلوا، اضف اليهم أولئك الذين لم يقدروا على استيعاب "عمق الديمقراطية القاعدية الخ…
ريحة حليب الغبرة والذكريات التعيسة:
كنّا صغار في الستينيات والمدارس البورقيبية تحلت على مصراعيها قدامنا، والدولة ما عندها كان حسن النية، نية تعليم كل الأطفال، وبورقيبة يتحدث على "المادة الشخمة" اللي مش تخرّج تونس من التخلف ، وكان يقول اللي تعليم البنات والأولاد "اهم من شراء طائرة نفاثة" في إشارة الى تكديس السلاح في البلدان العربية الاخرى …
الجيل هذاكة كان عندو طموح كبير ، رغم الفقر والبؤس ومعاناة المدارس البعيدة،والحفاء والشلايك المقطعة والدولة الحديثة كانت شبه فالسة والامراض البدائية منتشرة ، خاصة عند الصغار : الجرب والعوعاشة (سعال ديكي ) والرمد (في العيون) والشلل الخ... لكن كانت تونس اول دولة افريقية على مستوى التلقيح والأدوية، الحاصل الدولة وجيل بعد دولة الاستقلال ماعندهم كان العزيمة.
وكانت المساعدات تجي من برة ، من الدول الغربية ، خاصة (خاصة في اطار منافسة الحرب الباردة)، باعتبار الدول العربية والإسلامية ماخذة موقف من بورقيبة وتعتبرو كافر (بسبب مجلة الأحوال الشخصية وتعليم الفرنسية وتحييد التعليم الزيتوني ) والدول القومية تعتبرو "قُطري" (ضد القومية الصاعدة آنذاك) و"مُطبّع" باعتبار موقفو من التقسيم في فلسطين، وكانت المساعدات تجي في شكل شكاير سميد (من أمريكا) اللي كنا نخيطوها بعد شورتوات ، وشكاير قطانية مرحية و بطاطا، من دول أخرى،وكانت ريحة البطاطا المشوية في الكانون في جل البيوت وعوضت أحيانا عصيدة السميد بعصيدة البطاطا....
وكانت المدرسة تعطي في الكنتينا Cantine: في الصباح حليب ونصف النهار كسكروت فيه كعبة سردينة وشوية طماطم، والحليب غبرة ، يصبو أبيك (م) في الماء في نحاسة اليمينيوم ترفع حالي 50 ليتر ويبدا يخلط فيه بعصّاد كبير ، ونحن نشدو الصف باش ناخذو كل واحد كار اليمينيوم (ربع ليتر) نشربوه فيسع باش نخلو طريق للي بعد ، على خاطر الكيران شوي ،ووقت الحليب يقرب يوفا يزيد بيك (م) الماء، ويبدا يصيح علينا "يعطيكم وهف ماكثركم".
الحليب هذاكة نكرهو ، لانو كان ينفخنا وفيه ريحة خايبة ، حتى انو معلم الفرنساوية الصباح ، يقلنا حلوا الشبابك 5 دقايق قبل ما يبدا يقري فينا،
بعد اكثر من نصف قرن مش يرجع حليب الغبرة بريحتو وبورقيبة خسر الرهان، على خاطر المادة الشخمة جمدت من هاك العام والدولة عاجزة والجيل هذاكة ،جيل الدينصورات ،في طريق الاندثار والتعليم فقد قيمتو والاجيال الجديدة من سنوات رافعة شعار"تقرا والا ماتقراش..."