المعارك ليست سواء سادتي.. ومن قد يلتقي معك في تقاطع ما على ساحة النضال.. ليس بالضرورة شريك لك في عمقك الثوري..(نقصد بالثورة القطع مع دولة الاستبداد والفساد وتحويل حياة الناس نحو الأفضل).. ولكم في توصيف العشرية والموقف منها ميزان يفصل بين فريق وآخر..
فكثيرة هي الأسماء والجهات والمنابر الإعلامية التي تصل الليل بالنهار في وصف عشرية ما بعد 2010 بالسوداء.. وعدا عما في الوصف من حمولة عنصرية غبية، فإن في التوصيف تزييفا صارخا للواقع.. يتم تعمد ترويجه وتكريسه وإرساله إرسال المسلمات في عقول التونسيين المنهكين بواقع معيشي بائس وقصف لا يتوقف بالإشاعات وعواصف لا تهدأ لخلط الأوراق وتسويق الأبالسة ملائكة للرحمة والعكس صحيح..
عماد هذه الحملة المسعورة والخبيثة أن الثورة طوت "عهدا سعيدا" رغم "نواقصه".. رغم أن ذلك "العهد السعيد" أزهق مئات الأرواح البريئة وسرق عشرات مليارات الدولارات بما يوازي ثلاثة أضعاف ميزانية البلاد وهربها كما تثبت ذلك تقارير موثقة لا يرقى إليها شك..
ترى حملة "العشرية السوداء" أن المستوى المعيشي للتونسيين كان معقولا زمن المخلوع مقارنة بما تلاه، كما لو أن هول ما فضحته الثورة من زيف الصورة السياحية المزيفة يحيل على فقر وبؤس في كوكب آخر، وليس "الفردوس" الذي أصيب فيه التونسيون بالضجر من رغد العيش وقرروا الثورة عليها كسرا للملل ولإضفاء حركية درامية على رتابة النعيم الذي كانوا يرفلون فيه..
تحيل سردية "العشرية السوداء" على مفهوم منحط للإنسان التونسي يبدو فيها أشبه ببقرة هندوسية مدللة، يأكل ويتناسل وينام حيث طاب له النوم.. وليس بشرا يستحق إنسانيته ومواطن كامل الحقوق موفور الكرامة وشريك أصلي في اختيار المسؤول وصنع القرار..
تتحدث حملة "العشرية السوداء" عن النخب السياسية الخائنة والفاشلة والمدعومة من الخارج وغير الكفؤة التي داهمت الدولة العظيمة ونقلتها من عزها إلى تدهور مشين.. كما لو أن تلك الدولة هي غير تلك التي ولدت في حضن الدكتاتورية ناقلة التونسيين من فشل لفشل ومن أزمة لأخرى، وقد تم تأسيسها على هوى زعيم فرد.. وحزب واحد ثم تعددية شكلية تضحك الثكلى.. فقادت البلاد إلى لحظة ثار الناس في وجهها رافعين ضرورة التغيير الجذري للمنوال الفاشل القائم على اسطوانة المن والسلوى في وقاحة تجرأ فيها أصحابها على الحديث عن الزعيم الذي نزع عن شعبه القمّل وعلمهم وكساهم من بعد عري وأطعمهم من جوع..
وتمضي السردية في التلبيس على الناس متجاهلة أن النظام القديم منع كل شراكة في الحكم ليحتكر "خبراته".. وبالتالي لم يعد أحد من الصف الثوري بأن تتحول البلاد من جحيم لنعيم بكبسة زرّ، ولا ادعوا في العلم فلسفة وهم يتعاطون مع عش الدبابير الذي يسمى زورا وبهتانا "الإدارة التونسية" خزان الكفاءات..!!!
ما يوصف من قبل مغرضين بالعشرية السوداء.. وهذه معركة لا يمكن أن نغفل عنها في سياق الغبار الانقلابي.. إنما هو في التوصيف الموضوعي عشرية ديمقراطية ووصفها بذلك لا يعفيها من النقد والمراجعة.. وهي ككل انتقال ديمقراطي يجسد مخاضا للمستقبل ومواجهة بين قديم وجديد.. ومن الطبيعي أن يشهد انتكاسات وخيبات في دولة تحبو ديمقراطيا..
وإذا كان نقد العشرية الديمقراطية حاجة ثورية وطنية بالأساس، فإن الأكيد هو أن أبواق سردية "العشرية السوداء" يفتقدون أدنى أهلية أخلاقية ووطنية لتقييم الانتقال الديمقراطي.. ليس المخبرون وأذرع الأجهزة القمعية وزبائن رأس المال الفاسد وبيادق السفارات من يقوم بتلك العملية النقدية.. وإذا كان من نجاح ما لهم في تلك المهمة التخريبية مدفوعة الأجر.. فإن المسؤولية تقع على "الصف الثوري" الذي لم ولا ينتبه بالقدر الكافي لمعركة الإرادات وكسب العقول واستمالة القلوب.. حيث من الأهمية بمكان أن تكون رائدا في صناعة الواقع وطرح المصطلحات والأفكار وبناء السرديات..
وهي لعمري حرب طاحنة لم تضع أوزارها بعد.. تنتظر فرسانا أشاوس لحسمها في صالح الإنسان التونسي كامل المواطنة.. ولا خير فينا إن نحن لم نخضها كرارين غير فارّين.. لنخرج منها ظافرين بحريتنا وكرامتنا..