يعلم النقابيون في تونس أن اتحادهم الذي أسّسه الزعيم الشهيد فرحات حشّاد يعاني من أمراض متعدّدة، ورغم أنه بقي صامدا، يحسب الجميع له حسابا. ولكن منذ انفراد الرئيس قيس سعيّد بالحكم، وجد الاتحاد نفسه عاجزا عن أداء دوره التقليدي، فالأسعار تصاعدت بطريقة غير مسبوقة، ما أثر سلبيا على القدرة الشرائية للمواطنين. ورغم محاولات النقابيين الضغط على الحكومة للاستجابة لمطالب الشغالين، إلا أن محاولاتهم ذهبت سدى.
كما أن مبادرة الحوار التي راهنوا عليها كثيرا لم تر النور، ولم يعترف بها رئيس الدولة حتى قبل أن تولد. ورغم أن القيادة النقابية رحّبت بتصريحات سعيّد الرافضة شروط صندوق النقد الدولي، إلا أنها تدرك، في المقابل، خطورة المأزق الذي تمر به البلاد. لا شيء يوحي بأن الأوضاع ستتحسّن. وكلما تراجعت الحالة العامة الاقتصادية والاجتماعية، وجد الاتحاد التونسي العام للشغل نفسه مطحونا بين الحرص على عدم القطع مع رئاسة الجمهورية وقواعده المنهكة، رغم أن الاتحاد رفع شكوى إلى منظمة العمل الدولية ضد الحكومة واتهمها بأنها تتعامل معه "بسخرية".
في هذه الأجواء الكئيبة والمتوترة، تبرز الشقوق والتصدعات داخل الجسم النقابي. إذ لكلٍ مخاوفه وحساباته وانتماءاته الحزبية والأيديولوجية. هناك تململٌ في أوساط النقابيين بلغ درجة الانسلاخ أو التهديد به. والموالون لتيار 25 جويلية (الانقلاب في يوليو/ تموز 2022) مستمرّون في حملتهم ضد الاتحاد وقياداته.
لكن هناك من جهة أخرى أزمة ثقة حقيقية تجلت بوضوح مع القرار المفاجئ الذي اتخذته نقابة التعليم الثانوي التي أطاحت معظم وزراء التربية، وقادت الحملات ضد كل الحكومات المتعاقبة، وقّعت، أخيرا، على اتفاق مع الوزير الحالي، وقبلت بشروط ضعيفة أربكت الأساتذة الذين التفّوا حول نقابتهم، وقبلوا تنفيذ ما طالبتهم به، رغم عدم اقتناع كثيرين منهم. لقد حجبوا أعداد التلاميذ عن الإدارة وتركوهم مع عائلاتهم في حيرة غير مسبوقة. ثم بدون مقدّمات، تخلت النقابة عن ذلك، وأعلنت أن الحكومة تواجه أزمة مالية خانقة، ففتح ذلك باب التأويلات بحكم أن الكاتب العام للنقابة (رئيسها) ينتمي إلى حركة الشعب المساندة للرئيس، وبالتالي، اتهموه بتقديم تنازل سياسي له على حساب مصالح القطاع، والتضحية بمصالح الأساتذة.
بقي الاتحاد الحصن الأخير الذي يلجأ إليه الجميع، منظمات وجمعيات، عندما تتغوّل السلطة وتختلّ التوازنات في البلاد. والخوف حاليا أنه إذا سقط هذا الحصن، كما حصل من قبل، فذلك يعني أن المعركة حُسمت لصالح الأقوى الذي يتمثل حاليا في الرئيس سعيّد. لقد كسب الجولة تلو الأخرى، هزم الأحزاب كلها بعد أن عصف بحركة النهضة، وأخضع القضاء بعد أن طرد قضاة وأذلّ آخرين، وتقدّم أشواطا في إسكات الصحافيين، وحجّم النقابات الأمنية التي عجز السابقون عن المساس بها. ماذا بقي في البلاد بعد انهيار كل هذه الحصون. بقي الاتحاد وعدد قليل من الجمعيات غير القادرة على المقاومة وتعديل السياسات.
يصرخ الجميع في مجالسهم، يلعنون هذه المرحلة في السرّ والعلانية، يبحثون عن خريطة طريق يتبعونها للخروج من هذا المأزق، فيختلفون ويواصلون الحرب الأهلية الصامتة التي لم تترك لأي طرفٍ منهم كرامة ولا مصداقية. في حين يواصل الرجل السير في طريقه غير عابئ بهم، في وقتٍ يتآكلون هم كالديدان، يتلاعنون، ويتحرّكون في كل اتجاه. ولم يبق لبعضهم سوى التوجّه إلى العواصم الغربية، طالبين التدخل نيابة عنهم لإنزال العقاب على الذين فتكوا بهم وبعائلاتهم.
هذه نهاية الجولة لمعركة دامت حوالي سنتين. ما يحصل حاليا في تونس ليس سوى بقايا اشتباكات متفرّقة لمقاومة فقدت عنفوانها، وانحصرت في بعض الشوارع الخلفية. كانت المقاومة واعدة نسبيا في انطلاقتها، ثم اتّضح أن الأطراف المقاومة فاقدة للقوة والوحدة والتخطيط. لهذا فوجئت بردّ الفعل الذي جاء سريعا وخاطفا، فأصيب الجميع، وأصيبوا بالارتباك والعجز. ما يُخشى الآن أن تطول لحظة الانتظار لاستئناف المقاومة، وهو ما يفرض خطةً بديلةً ووجوها جديدة.