لأن حرب تشرين الأولى، ضاعت نتائجها الميدانية التي حققها الجندي، في أبهاء القصور الرئاسية والملكية بحضور وزير أو مبعوث أميركي، أو مسؤول الأمن القومي الأميركي، كان لا بد من حرب ثانية. فلقد تمادى الإسرائيليون مدعومين من الولايات المتحدة الأميركية إلى أبعد الحدود، فبعد أن دمروا عدداً من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسورية محواً لآثار التصفية العرقية في سنوات الأربعين، راحوا يعملون بكافة الطرق والوسائل على محو الوجود الفلسطيني نهائيًا حيث رسموا كما علمنا، خططاً لإنشاء مدن جديدة في الصحراء، في مصر والأردن والسعودية، ربما لأنهم يظنون أن الأوطان القائمة على الرمال هي مثل الخيم، لا تكون دائمة.
استناداً إليه، كان طبيعياً وضرورياً آن ينتفض الفلسطينيون، في الضفة الغربية وقطاع غزة، تذكيراً بأنهم موجودون وسيقاومون دفاعاً عن وجودهم وتصميماً على البقاء. تجسد ذلك بالعملية الجريئة في 7 تشرين أول الماضي، خصوصاً في الأهداف التي وضعوها والتي يمكننا أن نستقرئ فيها الالتزام بالقضية الوطنية من خلال إجبار المحتلين على احترام المقدسات في مدينة القدس، بما هي رموز ليست دينية وحسب وإنما هي وطنية أيضاً إلى جانب التأكيد على الوجود الوطني من خلال شعار "تبييض" السجون الإسرائيلية بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين والسجناء الرهائن والمعتقلين "إدارياً" دون إتهام ودون محاكمة، فقط لأنهم فلسطينيون.
على الأرجح أن الإسرائيليين كانوا بحاجة لهذه الحرب، لان سكان "دولة إسرائيل" التي يريدون أن تكون"دولة لليهود"، غالبيتهم من العرب غير اليهود. ( 7,3 مليوناً غير يهود مقابل 6,9 مليوناً من اليهود ) . الأمر الذي يجعل التستر صعباً على سياسة التمييز العنصري المطبقة فعلاً منذ أن بدأت الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين تحت الانتداب البريطاني. أغلب الظن أن هذه المسألة هي مصدر إشكال أساس في المجتمع اليهودي وأنها مرشحة لأن تتعمق أكثر فأكثر، لا سيما أنها مثلت حتى الآن العامل الرئيسي في إيصال اليمين الفاشي إلى السلطة بعد أن فشلت التيارات الصهيونية اليسارية والوسطية في مواجهة هذا التحدي مما أدى إلى إخراجها من الحكم. أما الحل الذي يطرحه اليمين الفاشي فهو معروف تاريخياً، وعنوانه التصفية، إما الترحيل وإما التقتيل. وما يزيد الطين بلة، أن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي يتضمن، بما هو مشروع استعماري أوروبي أميركي، مراحل أخرى من المقرر ان يبدأ العمل على تحقيقها بعد إنجاز ضم كامل فلسطين. نكتفي هنا بالإشارة لها، فمن المحتمل أن تشمل أجزاء في مصر والأردن ولبنان وسورية.
وفي السياق نفسه، نما إلى علمنا أن وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية حضر على وجه السرعة، في السابع من تشرين أول/ أكتوبر الماضي إلى إسرائيل، حيث قال أنه جاء بما هو "وزير يهودي" وقصده هنا "وزير إسرائيلي" في الحكومة الإسرائيلية، لأنه ليس كل اليهود يؤيدون السياسة الفاشية التي تتبعها هذه الحكومة، ينبني عليه أن الحرب التي أعلنتها الأخيرة على قطاع غزة تحظى بدعم "غير مشروط" من الولايات المتحدة الأميركية ومن الدول الأوروبية المجرورة خلفها. بكلام أكثر وضوحاً وتفصيلاً، إن هذه الحرب على قطاع غزة تخدم المصالح الأميركية في منطقة شرق المتوسط، امتدادًا من مصر إلى إيران. وبصراحة أكبر، أن الولايات المتحدة الأميركية هي شريكة في هذه الحرب، وليست وسيطاً، انطلاقاً من حاجتها لها.
من البديهي أننا لا نستطيع في حدود هذه المقالة التوسع في الكلام عن الأهداف التي تبتغي الولايات المتحدة الأميركية بلوغها في شرق المتوسط، فنختصر بانها ببساطة احتلال هذه المنطقة من أجل الحد من التوغل الروسي وإعاقة التقدم الصيني في اتجاهها والسيطرة على آبار النفط والغاز الموجودة تحت الماء بين مصر ولبنان ومن ضمنها إذن المياه الإقليمية للقطاع!!
وأخيراً، يمكننا القول أيضاً أن هذه الحرب هي ضرورة لحكام الدول العربية. تجدر الإشارة أولاً، إلى الصمت الذي لاذت به المملكة السعودية وإلى الدور الغامض الذي اتسم به موقف الإمارات، أما فيما يتعلق بدور قطر، فإنها على الأرجح تواصل بالتنسيق مع تركيا نشاطاً ديبلوماسيا ًظاهره مختلف عن باطنه. بكلام آخر، لعل هذا يدل على انتهاء الدور الذي أنيط بمجلس التعاون الخليجي، الذي تشكل في الأصل لأدائه.
ولكن في أغلب الظن أن مصر، وهي كانت الدولة الأساس في حركة التحرر العربية ما تزال رهينة الديبلوماسية الأميركية المتحكمة بتوزيع حقائب الدولار النفطي. بناء عليه نستطيع القول أنه ليس مستبعداً أن يميل حكام هذه الدول للاعتقاد بأن الحرب على القطاع، لو اقتصرت على تصفية حركات المقاومة لصبت في صالحها، ولكن الأهداف غير المعلنة لهذه الحرب تقلقها. المقصود هنا الأهداف الحقيقية لإسرائيل، تحديداً إفراغ الضفة الغربية والقطاع وبلاد البشارة، جنوب نهر الليطاني في لبنان من السكان الأصليين وإسكانهم في مناطق أخرى بعيدة.
هنا تحضرنا أسئلة كثيرة عن مسؤولية هؤلاء الحكام، وعن شرعية إمساكهم بزمام السلطة وعن علاقتهم بالناس الرازحين تحت وطأة سلطانهم، لا سيما أنها مستلبة الإرادة من الحكام في دول الغرب التي ما تزال النازية التي اكتسبها أسلافهم في المستعمرات، متقمصة فيهم إلى يومنا هذا، فالآتي على أيديهم أعظم.