ما يعانيه البلد لا يصل إلى ذلك الجالس في شرفة فندق الأوراسي الحامل مثله رفاهية الخمس نجوم… تُطل شرفات الأوراسي على واحد من أجمل خلجان العالم، موحية للرائي أنه سابح في الفضاء، تحت ناظريه غابات من الأشجار والعمارات والشوارع وأصداء بعيدة للناس…
وعلى مدّ البصر تمتزج زرقة البحر والسماء وغلالة ضباب خفيفة أشبه بأنفاس ساخنة في مساء مفعم بالبرودة والرطوبة… إنه الصيف. الصيف المبكر الذي يطرد الربيع باكرا مثلما تطرد الهموم ابتسامات الطيبين…
يستمتع الرجل بمنظر خرافي الجمال، تماما كما يستمتع الآن بمشروبه الروحي الذي يؤرجحه بين عالمين، عالم البلد كما يتخيله: متعافيا ناشطا مطلاّ على مستقبل أفضل من ماضيه!… وعالم لا يرى منه سوى ما يسمع عنه، وكل ما يسمعه هو ما يصل إليه عن طريق الآخرين…
أما الحياة كما تُعاش في غابات الشوارع والعمارات وقلوب الناس، فلا يعرف عنها سوى ما تقوله نشرات الأخبار الرسمية، تلك النشرات التي يتم تنظيف جروحها قبل عرضها على الجمهور…
كان مطمئنًا في كرسيه، مبتهجا لزينة مائدته، مرتاحًا لابتسامات الخدم، مديرًا ظهره ككل مايسترو للناس وراءه.. لم يُول كثير َ انتباه لشذرات الحديث التي كانت تغزو سمعه من وراء ظهره.. ماذا تهمه التصفيقات أو التصفيرات، أو حتى انتقادات الخصوم، ما دامت لا تقلق جلسته الرئاسية المحاطة بخدمات خمس نجوم!…
واجه المدينة التي يقال أن لها ماض مرصع بنياشين البطولة، كانت مدينته التي يكره ضجيجها، واكتظاظها، وأسواقها السوقية، ويكره فيها المتسولين والمتهورين والفضوليين الذين يبحلقون فيه من وراء زجاج سيارته… ولا يحب مطاعمها الشعبية الآهلة بالذباب، ولا لياليها الغاصة بالجرذان والمشردين، ولا مقاهيها المزدحمة بالثرثرة وبالعاطلين عن التفكير، حتى نساءها الجميلات اللواتي يفضّلن الخروج ليلًا، تفاديًا للحسد والحماقات، لا تثرن رغباته المحمومة…
في الحقيقة، لم يخف إعجابه أبدًا بأولئك المسؤولين الصبورين الذين يستمعون للإشاعات المغرضة، وأخبار الخبارجية، وتنجيمات المتشائمين… وحتى أكاذيب المعارضة!
ومع ذلك يحب هذه المدينة.. يحبها أكثر من أي مكان آخر في هذه الكرة الأرضية.. الكرة المسطحة التي أعتقد دائما أن مدينته هي صرتها!
كل شيء تمام سيدي الرئيس!
بعض التفاؤل يشفي القلب…
المنظر جميل.. الناس في الأسفل بخير، يأكلون ويتناكحون ويثرثرون.. الأسواق عامرة، والكل يشتري ويبيع الكل… المشاريع والخطط كثيرة.. الصحة العامة لا تقلقها الأوبئة.. كل تلميذ له كرسي وكرّاس.. كل عامل له مرتب وسقف.. كل فنان له المزيد من الأحلام….
الدنيا بخير سيدي الرئيس…
كل شيء موزع بعدالة، رصيد السعادة والشقاء، فرص كسب المال السهل، الفساد الصغير الذي لا يفسد للود قضية… ثم لدينا ككل الناس مشاكل إنسانية من نوع مخدرات للغذاء، وزواج ستة أشهر، وتهريب مواد غذائية، وتسرب معرفي من الجامعات، وخدمات حكومية سيئة، وبيروقراطية كولونيالية، وبعض المشاريع المؤجلة،،، وووو… عادي.. الدنيا بخير، والناس ينامون ويستيقظون في نفس اليوم منذ أجيال عديدة…
نظر إلى ذلك المنظر الجميل الذي انتقل من خارجه الى داخله.. كان فرحا بنفسه.. وبعينين ذابلتين نظر للخادم الذي أبتسم له ابتسامة بلاستيكية مدروسة، وسأله بعفوية تليق بأبله دوستوفيسكي: هل تنتخب علي لو ترشحت للانتخابات القادمة.. قال الخادم بعفوية تليق بزوربا اليوناني: سيدي الرئيس القانون يمنع غير المقيمين في تراب بلديتك من الانتخاب…