بعيدا عن دلالات حصيلة المبادلات التجارية التونسية مع الخارج والتي تترجم اليوم عمق تبعية الاقتصاد التونسي للخارج، تكشف هذه الحصيلة التي تتسم بتواصل تفاقم عجز الميزان التجاري في ظل عدم تحرك السلط العمومية والبنك المركزي في اتجاه إيقاف نزيف التوريد، تكشف عن حقيقة تعاطي الحكومات التي تعاقبت على السلطة بعد الثورة بما في ذلك حكومة الشاهد، مع الوضع الاقتصادي والمالي في البلاد الذي يتناقض مع مبادئ الدستور التي تقوم على الدفاع على السيادة الوطنية.
النشرية الأخيرة الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء في بداية هذا الأسبوع حول نتائج التجارة الخارجية بالأسعار الجارية لشهر جانفي 2019 لم تخرج عن هذا السياق الذي نبه الى خطورته عديد الخبراء الاقتصاديين في علاقة مع المديونية وقيمة الدينار التونسي، لتتسع الفجوة بين الشعب التونسي والحكومة وتثبت الحجة على أن أولويات الشاهد وحكومته تختلف عن أولويات الشعب.
ففي الوقت الذي يفقد فيه الدينار قوته التي يستمدها من القطاعات المنتجة ومن القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني ... يطل علينا رئيس الحكومة ليلة أحد من شهر فيفري 2019 ليعلن عن انتعاشة الاقتصاد وتحسن المؤشرات الاقتصادية والمالية ويهنئ نفسه بإلغاء الاتحاد العام التونسي للشغل الاضراب العام في الوظيفة العمومية والقطاع العام وبعودة الدروس بالمعاهد على خلفية الاتفاق على الزيادة في الأجور.
ومباشرة بعد هذا الظهور التلفزي المفاجئ ينشر المعهد الوطني للإحصاء في اليوم الموالي نتائج التجارة الخارجية التونسية مع الخارج لشهر جانفي 2019، نتائج في تناقض صارخ مع الخطاب الحكومي الذي روج لعودة الانتعاشة مع دينار منهار وتضخم مرتفع وتعطل لكل محركات النمو.
وفي كل مرة تثير تفاصيل المبادلات التجارية توريدا وتصديرا تساؤلات عديدة وغريبة تدفع الى مطالبة الحكومة بتوضيح برنامجها وخياراتها، وبالإفصاح عن حقائق خطيرة يمكن التعرض الى البعض منها في علاقة بموافقة الحكومة على الزيادة في الأجور.
أول هذه التساؤلات تتعلق بحقيقة ولائها باعتبار أن المسؤولية الوطنية تفترض الوقوف الى جانب العملة الوطنية وإيقاف نزيف التوريد. ثاني هذه التساؤلات تتعلق بحقيقة اعتمادات دعم المواد الأساسية ومدى التزام الحكومة بخيار الدعم.
فبخصوص الحقيقة الأولى يتابع التونسيون لحظة بلحظة مسار انزلاق الدينار وانهياره في غيا ب مؤشرات على تحرك السلط العمومية والبنك المركزي في اتجاه إنقاذه في ظل تواصل تفاقم العجز الهيكلي للميزان التجاري وتواصل توريد مواد استهلاكية تصنف ضمن الكماليات ويمكن الاستغناء عنها لفترة أو تعويضها بمنتوج وطني.
وفي هذا السياق يطرح التساؤل حول دور هذه السلط العمومية والنقدية في حماية عملتنا وحماية سيادتنا النقدية كأحد مقومات السيادة الوطنية بعيدا عن التبريرات الواهية التي ضخها صندوق النقد الدولي في عقول عدد من المسؤولين والمستشارين والتحرك في اتجاه تقليص التوريد وترشيده في انتظار النهوض بالتصدير.
وفي الوقت الذي ننتظر فيه مراجعة لقائمة المواد الموردة حسب أولويات السوق التونسية تكشف نشرية المعهد الوطني للإحصاء عن تقلص الكميات الموردة من الزيت النباتي من 31.5 ألف طن في شهر جانفي 2018 الى أقل من النصف في شهر جانفي 2019 حيث تم توريد 12.1 ألف طن فقط ...لنتساءل عن الأسباب التي تقف وراء الاكتفاء بتوريد الدولة لعشر الكمية الموردة من مادة السكر في شهر جانفي 2018 والتي بلغت 139.2 الف طن مقابل 14.1 ألف طن في جانفي 2019 في حين أن نمط الاستهلاك لا يمكن أن يتغير بهذا الحجم في ظرف وجيز، كما أن تبرير ذلك بتراجع الطلب على السكر والزيت النباتي بهذا الحجم لا يستقيم.
لقد تساءل التونسيون بعد توقيع حكومة الشاهد على الاتفاق الخاص بمفاوضات الزيادة في أجور موظفي وأعوان الوظيفة العمومية وأساتذة التعليم الثانوي عن مقاربة الحكومة لتوفير الاعتمادات الإضافية لتأمين هذه الزيادة شهرين بعد مصادقة مجلس نواب الشعب على قانون المالية لسنة 2019 . كما تساءلوا عن صمت الحكومة بخصوص توضيح هذه المقاربة خاصة في ظل التزام حكومة الشاهد تجاه صندوق النقد الدولي بالضغط على عجز ميزانية الدولة في حدود 3.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بتجميد الأجور في الوظيفة العمومية مقابل الحصول على القسط السادس من قرض "تسهيل الصندوق الممد " بقيمة 2.9 مليار دولار.
وبالرجوع الى القانون الأساسي الجديد لميزانية الدولة عدد 71 / 2015 المصادق عليه في سنة 2018 والذي يعطي مرونة أكثر في التصرف في اعتمادات ميزانية الدولة يتضح أنه أمام الشاهد إمكانية الموافقة على الزيادات في إطار هامش التصرف الذي أقره القانون الأساسي للميزانية وتجنب توتر المناخ الاجتماعي ، الا أنه يبدو أن سيناريو التصعيد من قبل الجامعة العامة للتعليم الثانوي من جهة، والاتحاد العام التونسي للشغل من جهة ثانية على خلفية الزيادة في الأجور في الوظيفة العمومية كان ممنهجا ومبرمجا له من قبل الشاهد.
ففي حين يمنع القانون الأساسي القديم عدد 52 لسنة 2014 التصرف في اعتمادات الميزانية بعد المصادقة على مشروع قانون المالية ويضبط طريقة التعامل مع النفقات التي لم يقع استغلالها بانتهاء السنة المالية حيث تنص الفقرة السادسة (جديدة) على " ينقل فائض الموارد المسجل عند ختم السنة الى ميزانية المؤسسة للسنة الموالية ويستعمل حسب نفس الإجراءات المتعلقة بتوزيع ميزانية المؤسسة والمنصوص عليها بالفصل 34 من هذا القانون" ، فقد منح القانون الأساسي الجديد لميزانية الدولة هامش تحرك واسع ومرونة أكبر للتصرف في اعتمادات الميزانية نقلا وتحويلا وذلك بمقتضى الفصل 23 الذي ينص على " تلغى اعتمادات الدفع التي لم يقع استعمالها بانتهاء السنة المالية وبصفة استثنائية يمكن نقل جزء من بقايا اعتمادات الدفع الخاصة بنفقات التسيير التي لم يقع استهلاكها الى غاية 31 ديسمبر من السنة المالية المعنية بمقتضى قرار من الوزير المكلف بالمالية بعد أخذ رأي رئيس المهمة وطبقا لشروط وإجراءات يضبطها بقرار".
كما يوضح الفصل 54 إمكانية تحويل الاعتمادات حيث ينص على " يمكن تحويل الاعتمادات بين البرامج الراجعة بالنظر لنفس رئيس المهمة في حدود 2 في المائة من جملة الاعتمادات المرصودة لكل برنامج. ويتم تحويل الاعتمادات بين البرامج خلال السنة المالية بمقتضى قرار من الوزير المكلف بالمالية. ويصدر الوزير المكلف بالمالية إثر انتهاء السنة المالية قرارا في جملة التحويلات".
من جهة أخرى ذهبت بعض الأطراف الى القول بأن الاعتمادات الإضافية المنجرة عن الزيادة في كتلة الأجور تفرض اللجوء الى قانون مالية تكميلي لنجد الإجابة على ذلك في باب الإجراءات الجديدة بالقانون الأساسي الجديد للميزانية التي تعطي الحكومة إمكانية الترفيع في اعتمادات قانون المالية بالزيادة بنسبة 1 في المائة بمقتضى أمر دون اللجوء الى قانون مالية تكميلي في حالة حدوث كوارث أو ضرورة متأكدة تقتضيها المصلحة الوطنية.
وبناء على ذلك يبدو أن تقليص توريد مادتي السكر والزيت النباتي في غياب تغير نمط الاستهلاك قد جاء لتأمين هامش تحرك للشاهد من خلال توظيف تراجع حصة نفقات دعم هذه المواد في أبواب أخرى وذلك على حساب المقدرة الشرائية للمواطن واستقرار أسعار هذه المواد الأساسية التي سترتفع باعتبار نقص التزويد الناتج عن تقليص حجم توريد هذه المواد.
ويبدو أن هذا السيناريو جاء في إطار حملة انتخابية سابقة لأوانها حاول الشاهد من خلالها زعزعة الثقة في اتحاد الشغل وشيطنته خاصة عبر القطاع التربوي، واضفاء البطولة على حكومته التي وافقت على الزيادة في كتلة الأجور رغم ضغوط صندوق النقد الدولي.